فصل: فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها، ويُقوِّى نفعَها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هَديهِ صلى الله عليه وسلم في قَطع العُرُوق والكي

ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ من حديث جابر بن عبد الله، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بعَثَ إلى أُبَىِّ بن كعب طَبيباً، فقَطَعَ له عِرْقاً وكَواه عليه‏.‏

ولما رُمِى سعدُ بن معاذٍ في أكْحَلِهِ حسَمَهُ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، ثم ورِمَت، فحسَمهُ الثانية‏.‏ و‏(‏الحَسْمُ‏)‏ هو‏:‏ الكَىُّ‏.‏

وفى طريق آخر‏:‏ أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كَوَى سعدَ بن مُعاذٍ في أكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ، ثم حسمَهُ سعد بن مُعاذٍ أو غيرُه من أصحابه‏.‏

وفى لفظ آخر‏:‏ أنّ رجلاً من الأنصار رُمِى في أكْحَلِه بِمِشْقَصٍ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم به فكُوِىَ‏.‏

وقال أبو عُبيدٍ‏:‏ وقد أُتِىَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم برجلٍ نُعِتَ له الكَىُّ، فقال‏:‏ ‏(‏اكْوُوهُ وارْضِفُوهُ‏)‏‏.‏ قال أبو عُبيدةَ‏:‏ الرَّضْفُ‏:‏ الحجارة تُسخَّنُ، ثم يُكمدُ بها‏.‏

وقال الفضل بن دُكَين‏:‏ حدَّثنا سُفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابرٍ‏:‏ أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كَواهُ في أكْحَلِه‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ من حديث أنس، أنه كُوِىَ من ذاتِ الجَنْبِ والنَّبىُّ صلى الله عليه وسلم حَىٌ‏.‏

وفى الترمذى، عن أنسٍ، أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم

‏(‏كَوَى أسْعَدَ بن زُرَارَةَ من الشَّوْكَةِ‏)‏‏.‏

وقد تقدَّم الحديث المتفَقُ عليه وفيه‏:‏ ‏(‏ومَا أُحِبُّ أن

أَكْتوِى‏)‏، وفى لفظ آخرَ‏:‏ ‏(‏وأنا أنْهَى أُمَّتِى عن الْكَىِّ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏جامع الترمذى‏)‏ وغيره عن عِمرانَ بن حصينٍ، أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الكَىِّ قال‏:‏ فابْتُلِينَا فاكْتويْنا فما أفلحْنا، ولا أنجحنا‏.‏ وفى لفظ‏:‏ نُهِينا عن الكَىِّ وقال‏:‏ فما أفْلَحْنَ ولا أنْجَحْنَ‏.‏

قال الخطابىُّ‏:‏ إنما كَوى سعداً ليَرْقَأَ الدمُ من جُرحه، وخاف عليه أنْ يَنْزِفَ فيَهْلِكَ‏.‏ والكىُّ مستعملٌ في هذا الباب، كما يُكْوَى مَن تُقطع يدُه أو رِجلُه‏.‏

وأما النهىُ عن الكىِّ، فهو أن يَكتوىَ طلباً للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يَكتو، هَلَك، فنهاهم عنه لأجل هذه النيَّةِ‏.‏

وقيل‏:‏ إنما نَهى عنه عِمران بن حُصَيْنٍ خاصةً، لأنه كان به ناصُورٌ، وكان موضعه خطِراً، فنهاه عن كيِّه، فيُشْبِهُ أن يكونَ النهىُ منصرفاً إلى الموضع المخوف منه‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ الكىُّ جنسانِ‏:‏ كىُّ الصحيح لئلا يَعتلَّ، فهذا الذي قيل فيه‏:‏ ‏(‏لمْ يتوكلْ مَن اكتوَى‏)‏، لأنه يُريد أن يَدفعَ القَدَرَ عن نفسه‏.‏

والثانى‏:‏ كىُّ الجرْح إذا نَغِلَ، والعُضوِ إذا قُطعَ، ففى هذا الشفاءُ‏.‏

وأما إذا كان الكىُّ للتداوى الذي يجوزُ أن ينجَع، ويجوز أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقربُ‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنَّةَ بغير حساب أنهم ‏(‏الذينَ لا يَسْتَرقُونَ، ولا يكتوُونَ، ولا يتطيَّرُونَ، وعَلَى ربهِمْ يتوكَّلُونَ‏)‏‏.‏

فقد تضمنتْ أحاديثُ الكىِّ أربعةَ أنواع، أحدُها‏:‏ فعلُه، والثانى‏:‏ عدمُ محبته له، والثالث‏:‏ الثناء على مَن تركه، والرابع‏:‏ النهى عنه، ولا تَعَارُض بينها بحمدِ الله تعالى، فإنَّ فِعلَه يدلُّ على جوازه، وعدمَ محبتِه له لا يدلُّ على المنع منه‏.‏ وأما الثناءُ على تاركِه، فيدلُّ على أنَّ تَرْكَه أولى وأفضلُ‏.‏ وأما النهىُ عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يُحتاجُ إليه، بل يفعل خوفاً من حدوث الداء‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الصَّرْع

أخرجا في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عطاء بن أبى رباح، قال‏:‏ قال ابنُ عباسٍ‏:‏ ألاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ ‏؟‏ قلتُ‏:‏ بَلَى‏.‏ قَالَ‏:‏ هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَت النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ‏:‏ إنِّى أُصْرَعُ، وَإنِّى أَتَكَشَّفُ؛ فَادْعُ الله لى، فقَالَ‏:‏ ‏(‏إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجنَّةُ؛ وإنْ شِئْتِ دعوتُ اللهَ لكِ أن يُعافِيَكِ‏)‏، فقالت‏:‏ أصبرُ‏.‏ قالتْ‏:‏ فإنى أتكشَّفُ، فَادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها‏.‏

قلت‏:‏ الصَّرع صرعان‏:‏ صَرْعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصَرْعٌ من الأخلاطِ الرديئة‏.‏ والثانى‏:‏ هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعِلاجه‏.‏

وأما صَرْعُ الأرواح، فأئْمتُهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلةُ الأرواحِ الشريفةِ الخيِّرةِ العُلْويَّة لتلك الأرواح الشِّريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارضُ أفعالَها وتُبطلها، وقد نص على ذلك ‏(‏بقراط‏)‏ في بعض كتبه، فذكر بعضَ عِلاج الصَّرْعِ، وقال‏:‏ هذا إنما ينفع من الصَّرْع الذي سبَبُه الأخلاط والمادة‏.‏ وأما الصَّرْع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج‏.‏

وأما جهلةُ الأطباء وَسقَطُهم وسفلَتُهم، ومَن يعتقِدُ بالزندقة فضيلة، فأُولئك يُنكِرون صَرْعَ الأرواح، ولا يُقرون بأنها تُؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهلُ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك، والحِسُّ والوجودُ شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلِّها‏.‏

وقدماءُ الأطباء كانوا يُسمون هذا الصَّرْعَ‏:‏ المرضَ الإلهى، وقالوا‏:‏ إنه من الأرواح‏.‏

وأما ‏(‏جالينوس‏)‏ وغيرُه، فتأوَّلُوا عليهم هذه التسمية، وقالوا‏:‏ إنما سمُّوه بالمرض الإلهى لكون هذه العِلَّة تَحدُث في الرأس، فَتضُرُّ بالجزء الإلهى الطاهر الذي مسكنُه الدماغُ‏.‏

وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامِها، وتأثيراتها، وجاءت زنادقةُ الأطباء فلم يُثبتوا إلا صَرْع الأخلاطِ وحده‏.‏

ومَن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتِها يضحَكُ من جهل هؤلاء وضعف عقولهم

وعِلاجُ هذا النوع يكون بأمرين‏:‏ أمْرٍ من جهة المصروع، وأمْرٍ من جهة المعالِج، فالذى من جهة المصروع يكون بقوةِ نفسه، وصِدْقِ توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوُّذِ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلبُ واللِّسان، فإنَّ هذا نوعُ محاربةِ، والمحَارب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين‏:‏ أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً، وأن يكون الساعدُ قوياً، فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعاً‏:‏ يكونُ القلب خراباً من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاحَ له‏.‏

والثانى‏:‏ من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً، حتى إنَّ من المعالجينَ مَن يكتفى بقوله‏:‏ ‏(‏اخرُجْ منه‏)‏، أو بقول‏:‏ ‏(‏بِسْمِ الله‏)‏، أو بقول‏:‏ ‏(‏لا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله‏)‏، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ‏)‏‏.‏

وشاهدتُ شيخنَا يُرسِلُ إلى المصروع مَن يخاطبُ الروحَ التي فيه، ويقول‏:‏ قال لكِ الشيخُ‏:‏ اخرُجى، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ لكِ، فيُفِيقُ المصروعُ، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروحُ مارِدةً فيُخرجُها بالضرب، فيُفيق المصروعُ ولا يُحِس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مراراً‏.‏

وكان كثيراً ما يَقرأ في أُذن المصروع‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون ‏:‏ 115‏]‏‏.‏

وحدَّثنى أنه قرأها مرة في أُذن المصروع، فقالت الروح‏:‏ نعمْ، ومد بها صوته‏.‏ قال‏:‏ فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها في عروق عنقه حتى كَلَّتْ يدَاىَ من الضرب، ولم يَشُكَّ الحاضرون أنه يموتُ لذلك الضرب‏.‏ ففى أثناء الضرب قالت‏:‏ أَنا أُحِبُّه، فقلتُ لها‏:‏ هو لا يحبك‏.‏ قالتْ‏:‏ أنَا أُريد أنْ أحُجَّ به‏.‏ فقلتُ لها‏:‏ هو لا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فقالتْ‏:‏ أنا أدَعُه كَرامةً لكَ، قال‏:‏ قلتُ‏:‏ لا ولكنْ طاعةً للهِ ولرسولِه، قالتْ‏:‏ فأنا أخرُجُ منه، قال‏:‏ فقَعَد المصروعُ يَلتفتُ يميناً وشمالاً، وقال‏:‏ ما جاء بى إلى حضرة الشيخ ‏؟‏ قالوا له‏:‏ وهذا الضربُ كُلُّه ‏؟‏ فقال‏:‏ وعلى أى شىء يَضرِبُنى الشيخ ولم أُذْنِبْ، ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضربُ ألبتة‏.‏

وكان يعالِجُ بآية الكرسىِّ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومَن يعالجه بها وبقراءة المعوِّذتين‏.‏

وبالجملة‏.‏‏.‏ فهذا النوعُ من الصَّرْع، وعلاجه لا يُنكره إلا قليلُ الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثرُ تسلطِ الأرواح الخبيثةِ على أهلهِ تكون من جهة قِلَّةِ دينِهم، وخرابِ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكرِ، والتعاويذِ، والتحصُّناتِ النبوية والإِيمانيَّة، فَتَلْقَى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاح معه، وربما كان عُرياناً فيُؤثر فيه هذا‏.‏

ولو كُشِفَ الغِطاء، لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ صَرْعَى هذه الأرواحِ الخبيثةِ، وهى في أسرِها وقبضتِها تسوقُها حيثُ شاءتْ، ولا يُمكنُها الامتناعُ عنها ولا مخالفتها، وبها الصَّرْعُ الأعظمُ الذي لا يُفيقُ صاحبُه إلا عند المفارقةِ والمعاينةِ، فهناك يتَحقَّقُ أنه كان هو المصروعَ حقيقةً، وبالله المستعان‏.‏

وعلاجُ هذا الصَّرْع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءتْ به الرُّسُل، وأن تكون الجنَّةُ والنارُ نُصبَ عينيه وقِبلَة قَلْبِه، ويستحضر أهلَ الدنيا، وحلول المَثُولاتِ والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطْر، وهُم صَرعَى لا يُفيقون، وما أشدَّ داءَ هذا الصَّرْعِ، ولكن لما عَمَّتِ البليَّةُ به بحيثُ لا يرى إلا مصروعاً، لم يَصرْ مستغرَباً ولا مستنكراً، بل صار لكثرة المصروعين عَيْنَ المستنكَرِ المستغرَبِ خلافه‏.‏

فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً أفاقَ من هذه الصَّرْعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حولَه يميناً وشمالاً على اختلافِ طبقاتهم، فمنهم مَن أطبَقَ به الجنونُ، ومنهم مَن يُفيق أحياناً قليلةً، ويعودُ إلى جنونه، ومنهم مَن يُفيق مرةً، ويُجَنُّ أُخرى، فإذا أفاق عَمِل عَمَل أهلِ الإفاقةِ والعقل، ثم يُعَاوِدُه الصَّرْعُ فيقعُ في التخبط‏.‏

فصل‏:‏ في صرع الأخلاط

وأما صَرْعُ الأخلاط، فهو عِلَّةٌ تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركةِ والانتصابِ منعاً غير تام، وسببُه خلطٌ غليظ لزج يسدُّ منافذ بطون الدماغ سدة غيرَ تامة، فيمتنعُ نفوذُ الحس والحركة فيه وفى الأعضاء نفوذاً تاماً من غير انقطاع بالكُلية، وقد تكون لأسباب أُخَر كريح غليظ يحتبسُ في منافذ الروح، أو بُخارٍ ردىء يرتفعُ إليه من بعض الأعضاء، أو كيفيةٍ لاذعة، فينقبِضُ الدماغُ لدفع المؤذى، فيتبعُه تشنُّجٌ في جميع الأعضاء، ولا يُمكن أن يبقى الإنسان معه منتصباً، بل يسقُطُ، ويظهرُ في فيه الزَّبَدُ غالباً‏.‏

وهذه العِلَّةُ تُعَدُّ من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تُعَدُّ من جملة الأمراض المُزْمنةِ باعتبار طول مُكثِها، وعُسْرِ بُرئها، لا سيما إن تجاوز في السن خمساً وعشرين سنة، وهذه العِلَّة في دماغه، وخاصةً في جوهره، فإنَّ صرْعَ هؤلاء يكون لازماً‏.‏ قال ‏(‏أبقراط‏)‏‏:‏ إنَّ الصَّرْعَ يَبقَى في هؤلاء حتى يموتوا‏.‏

إذا عُرِف هذا، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تُصرَعُ وتتكشَّفُ، يجوز أن يكون صَرْْعُها من هذا النوع، فوعدها النبىُّ صلى الله عليه وسلم الجنَّة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تتكشَّف، وخيَّرها بين الصبر والجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء مِن غير ضمان، فاختارت الصبرَ والجنَّةَ‏.‏

وفى ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجةِ والتداوى، وأنَّ علاجَ الأرواح بالدعواتِ والتوجُّهِ إلى الله يفعلُ ما لا ينالُه علاجُ الأطباء، وأنَّ تأثيرَه وفعلَه، وتأثُّرَ الطبيعةِ عنه وانفعالها أعظمُ من تأثيرِ الأدويةِ البدنيةِ، وانفعالِ الطبيعة عنها، وقد جرَّبنا هذا مراراً نحن وغيرُنا، وعقلاءُ الأطباء معترفون بأنَّ لفعل القُوَى النفسيةِ، وانفعالاتِها في شفاء الأمراض عجائبَ، وما على الصناعة الطبِّيةِ أضرُّ من زنادقة القوم، وسِفْلتِهم، وجُهالهم‏.‏

والظاهر‏:‏ أنَّ صَرْع هذه المرأة كان من هذا النوع، ويجوزُ أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بين الصبر على ذلك مع الجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبرَ والسَّترَ‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج عِرْق النَّسَا

روى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث محمد بن سِيرين، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏دواءُ عِرْقِ النَّسَا ألْيَةُ شاةٍ أعْرَابِيَّةٍ تُذَابُ، ثمَّ تُجزَّأُ ثلاثةَ أجزاءٍ، ثُمَّ يُشْرَبُ على الرِّيقِ في كلِّ يومٍ جُزْءٌ‏)‏‏.‏

عِرْقُ النَّسَاء‏:‏ وجعٌ يبتدىءُ مِن مَفْصِل الوَرِك، وينزل مِن خلفٍ على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدتُه، زاد نزولُه، وتُهزَلُ معه الرجلُ والفَخِذُ، وهذا الحديثُ فيه معنى لُّغوى، ومعنى طبى‏.‏

فأما المعنى اللُّغوى‏:‏ فدليلٌ على جواز تسمية هذا المرض بِعرْقِ النَّسَا خلافاً لمن منع هذه التسمية، وقال‏:‏ النَّسَا هو العِرْقُ نفسه، فيكونُ من باب إضافة الشىء إلى نفسه، وهو ممتنعٌ‏.‏

وجواب هذا القائل من وجهين؛ أحدهما‏:‏ أنَّ العِرْق أعمُّ من النَّسَا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو‏:‏ كُل الدراهم أو بعضها‏.‏

الثانى‏:‏ أنَّ النَّسَا هو المرضُ الحالُّ بالعِرْق؛ والإضافة فيه من باب إضافة الشىء إلى محلِّهِ وموضعه‏.‏ قيل‏:‏ وسمى بذلك لأن ألمه يُنسِى ما سواه، وهذا العِرْقُ ممتد من مفْصل الورك، وينتهى إلى آخر القدم وراءَ الكعب من الجانب الوحشى فيما بين عظم الساق والوتر‏.‏

وأما المعنى الطبى‏:‏ فقد تقدَّم أنَّ كلام رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نوعان؛ أحدهما‏:‏ عامٌ بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال‏.‏

والثانى‏:‏ خاصٌ بحسب هذه الأُمور أو بعضها، وهذا من هذا القِسم، فإنَّ هذا خطابٌ للعرب، وأهل الحجاز، ومَن جاوَرَهم، ولا سيما أعراب البوادى، فإنَّ هذا العِلاجَ من أنفع العلاج لهم، فإنَّ هذا المرض يَحدث من يُبْس، وقد يحدث من مادة غليظة لَزِجَة، فعلاجُها بالإسهال و‏(‏الألْيَةُ‏)‏ فيها الخاصيَّتان‏:‏ الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج‏.‏ وهذا المرضُ يَحتاج عِلاجُه إلى هذين الأمرين‏.‏

وفى تعيينِ الشاةِ الأعرابيةِ لقِلةُ فضولِها، وصِغرُ مقدارِها، ولُطف جوهرها، وخاصيَّةُ مرعاها لأنها ترعى أعشابَ البَرِّ الحارةَ، كالشِّيحِ، والقَيْصُوم، ونحوهما، وهذه النباتاتُ إذا تغذَّى بها الحيوانُ، صار في لحمه من طبعِها بعد أن يُلَطِّفَها تغذيةً بها، ويُكسبَها مزاجاً ألطَفَ منها، ولا سيما الألية، وظهورُ فعل هذه النباتاتِ في اللَّبن أقوى منه في اللَّحم، ولكنَّ الخاصيةَ التي في الألية من الإنضاج والتَّلْيِين لا تُوجد في اللَّبن‏.‏ وهذا كما تقدَّم أنَّ أدويةَ غالب الأُمم والبوادى هي بالأدوية المفردة، وعليه أطباءُ الهند‏.‏

وأما الروم واليونانُ، فيَعتَنُون بالمركَّبة، وهم متفِقون كُلُّهم على أنَّ مِن مهارة الطبيب أن يداوى بالغِذاء، فإن عجز فبالمُفرد، فإن عجز، فبما كان أقلَّ تركيباً‏.‏

وقد تقدَّم أنَّ غالب عاداتِ العرب وأهل البوادى الأمراضُ البسيطةُ، فالأدوية البسيطة تُنَاسبها، وهذا لبساطةِ أغذيتهم في الغالب‏.‏ وأما الأمراضُ المركَّبة، فغالباً ما تحدثُ عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافِها، فاختيرت لها الأدوية المركَّبة‏.‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يُمشيه ويُلينه

روى الترمذىُّ في ‏(‏جامعه‏)‏ وابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث أسماء بنت عُمَيْسٍ، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بماذا كُنتِ تَسْتَمْشِينَ‏)‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ بالشُّبْرُم، قال‏:‏

‏(‏حَارٌ جَارٌ‏)‏‏.‏ قالت‏:‏ ثم استمشيْتُ بالسَّنا، فقال‏:‏ ‏(‏لو كان شىءٌ يَشْفِى من الموتِ لكانَ السَّنا‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ عن إبراهيم بن أبى عَبلة، قال‏:‏ سمعتُ عبد الله ابن أُم حرام، وكان قد صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القِبْلتين يقول‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏عليكم بالسَّنا والسَّنُوت، فإنَّ فيهما شفاءً مِنْ كلِّ داءٍ إلا السَّامَ‏)‏، قيل‏:‏ يا رسول الله؛ وما السَّـــامُ ‏؟‏ قال‏:‏

‏(‏الموتُ‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بماذا كنتِ تستمشين‏)‏ ‏؟‏ أى‏:‏ تلينين الطبع حتى يمشى، ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذى باحتباس النَّجْوِ‏.‏ ولهذا سمى الدواءُ المسهل مَشِيّاً على وزن فعيل‏.‏ وقيل‏:‏ لأن المسهول يكثر المشى والاختلاف للحاجة‏.‏

وقد روى‏:‏ ‏(‏بماذا تستشفين‏)‏ ‏؟‏ فقالت‏:‏ بالشُّبْرُم، وهو من جملة الأدوية اليتوعية، وهو‏:‏ قِشر عِرْق شجرة، وهو حارٌ يابس في الدرجة الرابعة، وأجودُه المائل إلى الحُمْرة، الخفيفُ الرقيقُ الذي يُشبه الجلد الملفوف، وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباءُ بترك استعمالها لخطرها، وفرطِ إسهالها‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حَارٌ جَارٌ‏)‏ ويُروى‏:‏ ‏(‏حَارٌ يَارٌ‏)‏ قال أبو عُبَيد‏:‏ وأكثر كلامهم بالياء‏.‏ قلت‏:‏ وفيه قولان، أحدهما‏:‏ أنَّ الحارَّ الجارَّ بالجيم‏:‏ الشديدُ الإسهال؛ فوصفه بالحرارة، وشدةِ الإسهال وكذلك هو‏.‏‏.‏ قاله أبو حنيفةَ الدِّينوَرِىُّ‏.‏

والثانى وهو الصواب ‏:‏ أنَّ هذا من الإتباع الذي يُقصد به تأكيد الأول، ويكون بين التأكيد اللَّفظى والمعنوى، ولهذا يُراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه، كقولهم‏:‏ حَسَنٌ بَسَنٌ، أى‏:‏ كامل الحُسْن‏.‏ وقولهم‏:‏ حَسَنٌ قَسَنٌ بالقاف‏.‏ ومنه‏:‏ شَيْطانٌ لَيْطانٌ، وحارٌ جارٌ، مع أنَّ في الجار معنى آخر، وهو الذي يجر الشىء الذي يُصيبه من شدة حرارته وجذْبِه له، كأنه ينزعه ويسلخهُ‏.‏ و‏(‏يار‏)‏ إما لغة في ‏(‏جار‏)‏ كقولهم‏:‏ صِهرى وصِهريج، والصهارى والصهاريج، وإما إتباع مستقل‏.‏

وأما ‏(‏السَّنا‏)‏، ففيه لغتان‏:‏ المد والقصر، وهو نبت حِجازى أفضلُه المكىّ، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريبٌ من الاعتدال، حارٌ يابس في الدرجة الأولى، يُسْهِلُ الصفراءَ والسوداءَ، ويقوِّى جِرْمَ القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه، وخاصيته النفعُ من الوسواس السوداوى، ومن الشِّقاق العارض في البدن، ويفتح العَضَل وينفع من انتشار الشعر، ومن القُمَّل والصُّداعَ العتيق، والجرب، والبثور، والحِكَّة، والصَّرْع، وشرب مائه مطبوخاً أصلحُ مِن شربه مدقوقاً، ومقدارُ الشربة منه ثلاثة دراهمَ، ومن مائه‏:‏ خمسة دراهم‏.‏ وإن طُبِخَ معه شىء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العَجَم، كان أصلحَ‏.‏

قال الرازىُّ‏:‏ السَّناء والشاهترج يُسْهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحِكَّة‏.‏ والشَّربةُ مِن كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم‏.‏

وأما ‏(‏السَّنوتُ‏)‏ ففيه ثمانية أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العسل‏.‏

والثانى‏:‏ أنه رُبُّ عُكة السمن يخرجُ خططاً سوداء على السمن‏.‏

حكاهما عَمْرو بن بكر السَّكْسَكِىُّ‏.‏

الثالث‏:‏ أنه حَبٌ يُشبه الكمون وليس به، قاله ابن الأعرابى‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الكَّمون الكرمانىّ‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الرازيانج‏.‏

حكاهما أبو حنيفةَ الدِّينَوَرِىُّ عن بعض الأعراب‏.‏

السادس‏:‏ أنه الشِّبتُّ‏.‏

السابع‏:‏ أنه التمر‏.‏

حكاهما أبو بكر بن السُّنِّى الحافظ‏.‏

الثامن‏:‏ أنه العَسل الذي يكون في زِقاق السمن، حكاه عبد اللَّطيف البغدادى‏.‏

قال بعض الأطباء‏:‏ وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب؛ أى‏:‏ يخلط السَّناء مدقوقاً بالعسل المخالط للسمن، ثم يُلعق فيكون أصلحَ من استعماله مفرداً لما في العسل والسمن من إصلاح السَّنا، وإعانته له على الإسهال‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد روى الترمذىُّ وغيره من حديث ابن عباس يرفعه‏:‏ ‏(‏إنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيتُم به السَّعُوطُ واللَّدُودُ والحِجَامةُ والمَشِىُّ‏)‏‏.‏

والمَشِىُّ‏:‏ هو الذي يمشى الطبعَ وَيُليِّنُه ويُسَهِّلُ خُروجَ الخارِج‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج حِكَّة الجسم وما يولد القَمْل

في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام رضى الله تعالى عنهما في لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما‏)‏‏.‏

وفى رواية‏:‏ ‏(‏أنَّ عبدَ الرَّحمن بن عَوْف، والزُّبَير بن العوَّام رضى الله تعالى عنهما، شكَوْا القَمْلَ إلى النبى صلى الله عليه وسلم، في غَزاةٍ لهما، فَرَخَّص لهما في قُمُصِ الحرير، ورأيتُه عليهما‏)‏‏.‏

هذا الحديثُ يتعلق به أمران؛ أحدُهما‏:‏ فِقْهى، والآخر‏:‏ طِبى‏.‏

فأما الفقهى‏:‏ فالذى استقرت عليه سُـنَّته صلى الله عليه وسلم إباحةُ الحرير للنساء مطلقاً، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، فالحاجة إمَّا من شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه‏.‏ ومنها‏:‏ لباسه للجرب، والمرض، والحِكةِ، وكثرة القَمْل كما دلّ عليه حديث أنس هذا الصحيح‏.‏

والجواز‏:‏ أصح الروايتين عن الإمام أحمدَ، وأصحُ قولى الشافعى، إذ الأصلُ عدمُ التخصيص، والرخصةُ إذا ثبتت في حقِّ بعض الأُمة لمعنى تعدَّتْ إلى كُلِّ مَن وُجِدَ فيه ذلك المعنى، إذ الحكمُ يَعُم بعُمُوم سببه‏.‏

ومَن منع منه، قال‏:‏ أحاديثُ التَّحريم عامةٌ، وأحاديثُ الرُّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرَّحمن بن عَوف والزُّبَيْر، ويُحتمل تَعديها إلى غيرهما‏.‏ وإذا احتُمِلَ الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث‏:‏ فلا أدرى أبَلغتِ الرُّخصةُ مَنْ بعدهما، أم لا ‏؟‏

والصحيح‏:‏ عمومُ الرُّخصة، فإنه عُرْف خطاب الشرع في ذلك ما لم يُصرِّحْ بالتخصيص، وعدم إلحاق غير مَن رخَّص له أوَّلا به، كقوله لأبى بُرْدة في تضحيته بالجذعة من المَعْز‏:‏

‏(‏تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أحدٍ بَعْدَك‏)‏، وكقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في نكاح مَن وهبتْ نفسَها له‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب ‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وتحريمُ الحرير‏:‏ إنما كان سداً للذرِيعة، ولهذا أُبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحةِ الراجحة، وهذه قاعدةُ ما حُرِّم لسد الذرائع، فإنه يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حَرُمَ النظر سداً لذريعة الفعل، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة، وكما حَرُمَ التنفلُ بالصلاة في أوقات النهى سداً لذريعة المشابهة الصوريةِ بعُبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سداً لذريعةِ رِبا النَّسيئة، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العَرَايا، وقد أشبَعْنا الكلام فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من لباس الحرير في كتاب‏:‏ ‏(‏التَّحْبِير لِمَا يَحلُّ وَيَحْرُمُ من لِباس الحَريرِ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في الأمر الطبى للحرير

وأما الأمر الطبىُّ‏:‏ فهو أنَّ الحرير من الأدوية المتخَذةِ من الحيوان، ولذلك يُعَد في الأدوية الحيوانية، لأن مخرجَه من الحيوان، وهو كثيرُ المنافع، جليلُ الموقع، ومِن خاصيَّتِه تقويةُ القلب، وتَفريحُه، والنفع من كثير من أمراضه، ومِن غلبة المِرَّةِ السوداء، والأدواءِ الحادثة عنها، وهو مُقوٍ للبصر إذا اكتُحِلَ به، والخامُ منه وهو المستعمَلُ في صناعة الطب حار يابس في الدرجة الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ حار رطب فيها‏.‏ وقيل‏:‏ معتدل‏.‏ وإذا اتُّخِذَ منه ملبوسٌ كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخِّناً للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه‏.‏

قال الرازىّ‏:‏ الإبْرَيْسَمُ أسخنُ من الكَتَّان، وأبردُ من القطن، يُربى اللحمَ، وكلُّ لباس خشن، فإنه يُهزِلُ، ويصلب البَشْرة وبالعكس‏.‏

قلتُ‏:‏ والملابسُ ثلاثة أقسام‏:‏ قسمٌ يُسخن البدن ويُدفئه، وقسمٌ يُدفئه ولا يُسخنه، وقسمٌ لا يُسخنه ولا يدُفئُه، وليس هناك ما يُسخنه ولا يُدفئه، إذ ما يُسخنه فهو أولى بتدفئته، فملابسُ الأوبار والأصواف تُسخن وتُدفىء، وملابسُ الكَتَّان والحرير والقطن تُدفىءُ ولا تُسخن‏.‏ فثياب الكَتَّان باردة يابسة، وثيابُ الصوف حارة يابسة، وثيابُ القطنِ معتدلةُ الحرارة، وثيابُ الحرير ألينُ من القطن وأقل حرارةً منه‏.‏

قال صاحب ‏(‏المنهاج‏)‏‏:‏ ‏(‏ولُبْسه لا يُسخن كالقُطن، بل هو معتدل، وكُلُّ لباس أملسَ صقيلٍ، فإنه أقلُّ إسخاناً للبدن، وأقلُّ عوناً في تحلل ما يتحلل منه، وأحْرَى أن يُلبسَ في الصيف، وفى البلاد الحارة‏)‏

ولمّا كانت ثيابُ الحرير كذلك، وليس فيها شىء من اليُبْس والخشونة الكائنين في غيرها، صارت نافعة من الحِكَّة، إذ الحِكَّة لا تكونُ إلا عن حرارة ويبسٍ وخشونةٍ، فلذلك رخَّص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر وعبدِ الرَّحمن في لباس الحرير لمداواةِ الحِكَّةِ، وثيابُ الحرير أبعدُ عن تولُّدِ القمل فيها، إذ كان مِزَاجُها مخالفاً لِمزاج ما يتولَّدُ منه القمل‏.‏

وأما القسمُ الذي لا يُدفىء ولا يُسخن، فالمتخَذ من الحديدِ، والرصاص، والخشب، والتُّراب‏.‏‏.‏‏.‏ ونحوها، فإن قيل‏:‏ فإذا كان لباسُ الحرير أعدلَ اللباس وأوفَقَه للبدن، فلماذا حرَّمتْه الشريعة الكاملةُ الفاضلةُ التي أباحت الطيباتِ، وحرَّمت الخبائث‏؟‏

قيل‏:‏ هذا السؤال يجيبُ عنه كلُّ طائفةٍ من طوائف المسلمين بجوابٍ، فمُنْكِرُو الحِكَم والتَّعليلِ لمَّا رُفعِت قاعدةُ التعليلِ من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال‏.‏

ومُثْبِتُو التعليلِ والحِكَم وهم الأكثرون منهم مَن يُجيبُ عن هذا بأن الشريعةَ حرَّمته لتَصبِرَ النفوسُ عنه، وتَترُكَه لله، فتُثاب على ذلك لا سيما ولها عوضٌ عنه بغيره‏.‏

ومنهم مَن يُجيبُ عنه بأن خُلِقَ في الأصل للنساء، كالحلية بالذهب، فَحَرُمَ على الرجالِ لما فيه من مَفسدةِ تَشَبُّه الرجالِ بالنساء‏.‏

ومنهم مَن قال‏:‏ حَرُمَ لما يُورثُه من الفَخْر والخُيَلاء والعُجْب‏.‏

ومنهم مَن قال‏:‏ حَرُمَ لما يُورثه بملامسته للبدن من الأُنوثةِ والتَّخَنُّثِ، وضدِّ الشَّهامة والرجولةِ، فإن لُبْسه يُكسبُ القلبَ صفة من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجدُ مَن يَلبَسُه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنُّثِ والتأنُّثِ، والرَّخَاوةِ ما لا يَخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرِهم فحوليةِ ورُجولية، فلا بد أن يَنْقُصَه لُبْسُ الحرير منها، وإن لم يُذهبْهَا، وَمَن غَلُظتْ طِباعُه وكَثُفَتْ عن فهم هذا، فليُسَلِّم للشارع الحكيم، ولهذا كان أصح القولين‏:‏ أنه يَحرم على الولى أن يُلبسه الصبىَّ لما يَنشأ عليه من صفات أهل التأنيث‏.‏

وقد روى النسائىُّ من حديث أبى موسى الأشعرىِّ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنَّ اللهَ أحلَّ لإِناثِ أُمَّتِى الحريرَ والذَّهبَ، وحَرَّمَه عَلى ذُكُورِها‏)‏‏.‏

وفى لفظٍ‏:‏ ‏(‏حُرِّمَ لِباسُ الحَريرِ والذَّهَبِ عَلى ذُكورِ أُمَّتى، وأُحِلَّ لإِناثِهِم‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ عن حُذَيفة، قال‏:‏ ‏(‏نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن لُبْس الحرير والدِّيباجِ، وأن يُجلَسَ عليه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏هُو لهم في الدُّنيا، ولكم في الآخِرَة‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج ذاتِ الجنب

روى الترمذى في ‏(‏جامعه‏)‏ من حديث زيد بن أرقمَ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏تَدَاوَوْا مِنْ ذاتِ الجَنْبِ بالقُسْطِ البَحْرى والزَّيْتِ‏)‏‏.‏

وذاتُ الجنب عند الأطباء نوعان‏:‏ حقيقى وغيرُ حقيقى‏.‏ فالحقيقى‏:‏ ورمٌ حار يَعْرِضُ في نواحى الجَنب في الغشاء المستبطن للأضلاع‏.‏ وغير الحقيقى‏:‏ ألم يُشبهه يَعْرِضُ في نواحى الجنبِ عن رياح غليظة مؤذيةٍ تحتقِن بين الصِّفاقات، فتُحْدِث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقى، إلا أن الوجعَ في هذا القسم ممدودٌ، وفى الحقيقى ناخسٌ‏.‏

قال صاحبُ ‏(‏القانون‏)‏‏:‏ قد يعرِضُ في الجنبِ، والصَّفاقات، والعَضَل التي في الصدر، والأضلاع، ونواحيها أورامٌ مؤذية جداً موجِعةٌ، تسمى شَوْصةً وَبِرساماً، وذاتَ الجنب‏.‏ وقد تكون أيضاً أوجاعاً في هذه الأعضاء ليست من ورم، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العِلَّة، ولا تكون منها‏.‏

قال‏:‏ واعلم أنَّ كُلَّ وجع في الجنب قد يُسمى ذاتَ الجنب اشتقاقاً من مكان الألم، لأن معنى ذات الجنب‏:‏ صاحبةُ الجنب، والغرضُ به ههنا وَجَعُ الجنب، فإذا عَرَضَ في الجنب ألمٌ عن أى سبب كانَ نُسِبَ إليه، وعليه حُمِلَ كلام ‏(‏بقراط‏)‏ في قوله‏:‏ إنَّ أصحابَ ذات الجنبِ ينتفعون بالحَمَّام‏.‏ قيل‏:‏ المراد به كلُّ مَن به وجعُ جنب، أو وجعُ رِئة من سوء مِزاج، أو من أخلاط غليظة، أو لذاعة من غير ورم ولا حُمَّى‏.‏

قال بعضُ الأطباء‏:‏ وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان، فهو ورمُ الجَنب الحار، وكذلك ورمُ كل واحد من الأعضاء الباطنة، وإنما سمى ذاتَ الجنب ورمُ ذلك العضو إذا كان ورماً حاراً فقط‏.‏

ويلزم ذاتَ الجنب الحقيقى خمسةُ أعراض، وهى‏:‏ الحُمَّى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النَّفَس، والنبضُ المنشارى‏.‏

والعلاج الموجود في الحديث، ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثانى الكائن عن الريح الغليظة، فإنَّ القُسْطَ البحرى وهو العود الهندى على ما جاء مفسَّراً في أحاديث أُخَر صِنفٌ من القُسْط إذا دُقَّ دقاً ناعماً، وخُلِط بالزيت المسخن، ودُلِكَ به مكانُ الريح المذكور، أو لُعِق، كان دواءً موافقاً لذلك، نافعاً له، محلِّلاً لمادته، مُذْهِباً لها، مقوياً للأعضاء الباطنة، مفتحاً للسُّدد، والعودُ المذكور في منافعه كذلك‏.‏

قال المسيحىُّ‏:‏ العود‏:‏ حار يابس، قابض يحبسُ البطن، ويُقوى الأعضاء الباطنة، ويطرُد الريح، ويفتح السُّدد، نافعٌ من ذات الجنب، ويُذهب فضلَ الرطوبة، والعُود المذكور جيد للدماغ‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن ينفع القُسْط مِن ذات الجنب الحقيقيةِ أيضاً إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية، لا سيما في وقت انحطاط العِلَّة‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وذاتُ الجنب‏:‏ من الأمراض الخطرة، وفى الحديث الصحيح‏:‏ عن أُم سلمةَ، أنها قالت‏:‏ بدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمرضِه في بيت ميمُونةَ، وكان كلَّما خَفَّ عليه، خرجَ وصلَّى بالناس، وكان كلَّما وَجَد ثِقَلاً، قال‏:‏ ‏(‏مُرُوا أبا بكرٍ فليُصَلِّ بالناس‏)‏، واشتد شكواه حتى غُمِرَ عليه مِن شدةِ الوجع، فاجتمع عنده نساؤه، وعمُّه العباس، وأُمُّ الفضل بنت الحارث، وأسماءُ بنت عُمَيْس، فتشاوروا في لدِّهِ، فَلدُّوه وهو مغمورٌ، فلما أفاق قال‏:‏ ‏(‏مَن فعل بى هذا ‏؟‏ هذا من عمل نساءٍ جِئْنَ من ههُنا‏)‏، وأشار بيده إلى أرضِ الحبشةِ، وكانت أُمُّ سلمةَ وأسماءُ لَدَّتاهُ، فقالوا‏:‏ يا رسولَ الله؛ خشِينَا أن يكون بكَ ذاتُ الجنب‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فَبِمَ لَدَدْتُمُونى‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ بالعُودِ الهندىِّ، وشىءٍ من وَرْسٍ وقَطِرَاتٍ من زيت‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما كان اللهُ لِيَقْذِفَنِى بذلك الدَّاءِ‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏عَزَمْتُ عليكم أنْ لا يَبْقى في البيتِ أحدٌ إلا لُدَّ إلا عَمِّىَ العَبَّاس‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشةَ رضى الله تعالى عنها قالت‏:‏ لَدْدنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأشار أن لا تَلُدُّونِى، فقلنا‏:‏ كراهِيةُ المريض للدواءِ، فلما أفاق قال‏:‏ ‏(‏ألم أنْهَكُمْ أن تَلُدُّونِى، لا يَبْقَى منكم أحدٌ إلا لُدَّ غَيْرَ عَمِّى العباس، فإنَّه لَمْ يَشْهَدْكُم‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد عن الأصمعىِّ‏:‏ اللَّدُودُ‏:‏ ما يُسقى الإنسان في أحد شِقَّى الفم، أُخِذ من لَدِيدَى الوادى، وهما جانباه‏.‏ وأما الوَجُورُ‏:‏ فهو في وسط الفم‏.‏

قلت‏:‏ واللَّدود بالفتح ‏:‏ هو الدواءُ الذي يُلَدَّ به‏.‏ والسَّعوطُ‏:‏ ما أُدخل من أنفه‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه معاقبةُ الجانى بمثل ما فعل سواء، إذا لم يكن فِعلُه محرماً لحق الله، وهذا هو الصوابُ المقطوع به لبضعةَ عشر دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر، وهو منصوص أحمد، وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين، وترجمة المسألة بالقِصاص في اللَّطمة والضربة، وفيها عدةُ أحاديث لا مُعارِضَ لها ألبتة، فيتعين القولُ بها‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الصُّدَاع والشقيقة

روى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ حديثاً في صحته نظر‏:‏ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا صُدِع، غَلَّفَ رأسَه بالحنَّاءِ، ويقول‏:‏ ‏(‏إنَّهُ نافعٌ بإذنِ الله من الصُّداعِ‏)‏‏.‏

والصُّدَاع‏:‏ ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد شِقَّى الرأس لازماً يُسمَّى شقيقةً؛ وإن كان شاملاً لجميعه لازماً، يسمى بَيضْةً وخُودَةً تشبيهاً بِبَيْضَة السلاح التي تشتمل على الرأس كلِّه، وربما كان في مؤخَّر الرأس أو في مقدمه‏.‏

وأنواعه كثيرة، وأسبابه مختلفة‏.‏ وحقيقة الصُّداع‏:‏ سخونةُ الرأس، واحتماؤه لما دار فيه مِن البخار يطلُب النفوذ من الرأس، فلا يجد منفذاً، فيصدَعُه كما يصدع الوَعىُ إذا حمى ما فيه وطلب النفوذ، فكل شىء رطب إذا حمى، طلب مكاناً أوسع من مكانه الذي كان فيه، فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله بحيث لا يمكنه التَّفَشِّى والتحلل، وجال في الرأس، سمى‏:‏ السَّدرَ‏.‏

والصُّداع يكون عن أسباب عديدة‏:‏

أحدها‏:‏ من غلبة واحد من الطبائع الأربعة‏.‏

والخامس‏:‏ يكون من قروح تكون في المعدة، فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة‏.‏

والسادس‏:‏ من ريح غليظة تكون في المعدة، فتصعَدُ إلى الرأس فتصدعه‏.‏

والسابع‏:‏ يكون من ورم في عروق المعدة، فيألمُ الرأسُ بألم المعدة للاتصال الذي بينهما‏.‏

والثامن‏:‏ صُداع يحصل من امتلاء المعدة من الطعام، ثم ينحدر ويبقى بعضُه نيئاً، فيصدَع الرأس ويثقله‏.‏

والتاسع‏:‏ يعرض بعد الجِمَاع لتخلخل الجسم، فيصل إليه مِن حر الهواء أكثرُ من قدر‏.‏

والعاشر‏:‏ صداع يحصُل بعد القىء والاستفراغ، إما لغلبة اليبس، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه‏.‏

والحادى عشر‏:‏ صُداع يعرِضُ عن شدة الحر وسخونة الهواء‏.‏

والثانى عشر‏:‏ ما يَعْرِضُ من شدة البرد، وتكاثفِ الأبخرة في الرأس وعدم تحَلُّلها‏.‏

والثالث عشر‏:‏ ما يحدُث مِن السهر وعدم النوم‏.‏

والرابع عشر‏:‏ ما يحدُث مِن ضغط الرأس وحمل الشىء الثقيل عليه‏.‏

والخامس عشر‏:‏ ما يحدُث مِن كثرة الكلام، فتضعف قوةُ الدماغ لأجله‏.‏

والسادس عشر‏:‏ ما يحدُث مِن كثرة الحركة والرياضة المفرطة‏.‏

والسابع عشر‏:‏ ما يحدُث من الأعراض النفسانية، كالهموم، والغموم، والأحزان، والوساوس، والأفكار الرديئة‏.‏

والثامن عشر‏:‏ ما يحدُث من شدة الجوع، فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه‏.‏

والتاسع عشر‏:‏ ما يحدُث عن ورم في صِفاق الدماغ، ويجد صاحبُه كأنه يُضْرَب بالمطارق على رأسه‏.‏

والعشرون‏:‏ ما يحدُث بسبب الحُمَّى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في سبب صُداع الشقيقة

وسبب صُداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها، أو مرتقية إليها، فيقبلُها الجانب الأضعف من جانبيه، وتلك المادةُ إما بُخارية، وإما أخلاط حارة أو باردة، وعلامتُها الخاصة بها ضرَبان الشرايين، وخاصة في الدموى‏.‏ وإذا ضُبِطت بالعصائب، ومُنِعت من الضَّربَان، سكن الوجع‏.‏

وقد ذكر أبو نعيم في كتاب ‏(‏الطب النبوى‏)‏ له‏:‏ أنَّ هذا النوع كان يُصيب النبى صلى الله عليه وسلم، فيمكث اليوم واليومين، ولا يخرج‏.‏

وفيه‏:‏ عن ابن عباس قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عَصَبَ رأسه بعِصَابةٍ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ أنه قال في مرض موته‏:‏ ‏(‏وَارَأْسَاهُ‏)‏‏.‏ وكان يُعصِّبُ رأسه في مرضه، وعَصْبُ الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس‏.‏

فصل‏:‏ في علاج صُداع الشقيقة

وعِلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه، فمنه ما علاجُه بالاستفراغ، ومنه ما علاجُه بتناول الغذاء، ومنه ما عِلاجُه بالسُّكون والدَّعة، ومنه ما عِلاجُه بالضِّمادات، ومنه ما علاجُه بالتبريد، ومنه ما علاجُه بالتسخين، ومنه ما عِلاجُه بأن يجتنب سماعَ الأصواتِ والحركات‏.‏

إذا عُرِفَ هذا، فعِلاجُ الصُّداع في هذا الحديث بالحِنَّاء، هو جزئى لا كُلِّى، وهو علاج نوع من أنواعِه، فإن الصُّداع إذا كان من حرارة ملهبة، ولم يكن من مادةٍ يجب استفراغها، نفع فيه الحِنَّاء نفعاً ظاهراً، وإذا دُقَّ وضُمِّدَتْ به الجبهةُ مع الخل، سكن الصُّداع، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضُمِّدَ به، سكنت أوجاعُه، وهذا لا يختصُّ بوجع الرأس، بل يعُمُّ الأعضاءَ، وفيه قبض تُشَدُّ به الأعضاء، وإذا ضُمِّدَ به موضعُ الورم الحار والملتهب، سكَّنه‏.‏

وقد روى البخارى في ‏(‏تاريخه‏)‏، وأبو داود في ‏(‏السنن‏)‏ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما شَكا إليه أحدٌ وجَعاً في رأسِهِ إلا قال له‏:‏ ‏(‏احْتَجِمْ‏)‏، ولا شَكى إليه وجَعاً في رجلَيْه إلا قال له‏:‏ ‏(‏اخْتَضِبْ بالحِنَّاء‏)‏‏.‏

وفى الترمذى‏:‏ عن سَلْمَى أُمِّ رافعٍ خادمِة النبى صلى الله عليه وسلم قالتْ‏:‏ كان لا يُصيبُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قرحةٌ ولا شَوْكةٌ، إلا وَضَع عليها الحِنَّاءَ

فصل‏:‏ في الحِنَّاء ومنافعه وخواصه

والحِنَّاءُ باردٌ في الأُولى، يابسٌ في الثانية، وقوةُ شجر الحِنَّاء وأغصانها مُركَّبةٌ من قوة محللة اكتسبتْها من جوهر فيها مائى، حار باعتدال، ومِن قوة قابضة اكتسبتْها من جوهر فيها أرضى بارد‏.‏

ومن منافعه أنه محلِّلٌ نافع من حرق النار، وفيه قوةٌ موافقة للعصب إذا ضُمِّدَ به، وينفع إذا مُضِغ من قُروح الفم والسُّلاق العارض فيه‏.‏ ويبرىءُ القُلاع الحادث في أفواه الصبيان، والضِّماد به ينفعُ مِن الأورام الحارة الملهبة، ويفعَلُ في الجراحات فِعل دم الأخوَين، وإذا خُلِطَ نَوْرُه مع الشمع المصفَّى، ودُهن الورد، ينفع من أوجاع الجنب‏.‏

ومن خواصه أنه إذا بدأ الجُدرِىُّ يخرج بصبى، فخُضِبَت أسافل رجليهِ بحنَّاءٍ، فإنه يُؤمَنُ على عينيه أن يخرُج فيها شىء منه، وهذا صحيح مُجرَّب لا شك فيه‏.‏ وإذا جُعِل نَوْرُه بين طى ثياب الصوف طيَّبها، ومنع السوس عنها، وإذا نُقِعَ ورقُه في ماءٍ عذب يغمُره، ثم عُصِرَ وشُرِبَ من صفوه أربعين يوماً كلَّ يوم عشرون درهماً مع عشرة دراهم سكر، ويُغذَّى عليه بلحم الضأن الصغير، فإنه ينفع من ابتداء الجُذام بخاصيةٍ فيه عجيبة‏.‏

وحُكى أنَّ رجلاً تشقَّقَتْ أظافيرُ أصابِع يده، وأنه بذل لمن يُبرئه مالاً، فلم يجد، فوصفت له امرأة، أن يشرب عشرة أيام حِناء، فلم يُقْدِم عليه، ثم نقعه بماء وشربه، فبرأ ورجعت أظافيرُه إلى حسنها‏.‏

والحِنَّاء إذا أُلزِمَتْ به الأظفار معجوناً حسَّنها ونفعها، وإذا عُجِنَ بالسمن وضُمِّدَ به بقايا الأورام الحارة التي تَرْشَحُ ماءً أصفر نفعها، ونفع من الجرَب المتقرِّح المزمن منفعة بليغة، وهو يُنْبت الشعرَ ويقويه، ويُحَسِّنه، ويُقوِّى الرأس، وينفع من النَّفَّاطات، والبُثور العارضة في الساقين والرِّجْلين، وسائر البدن‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب، وأنهم لا يُكرَهون على تناولهما

روى الترمذى في ‏(‏جامعه‏)‏، وابنُ ماجه، عن عقبة بن عامر الجُهَنِى، قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُكْرِهوا مَرضاكُم عَلَى الطَّعامِ والشَّرابِ، فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُطْعِمُهُم ويَسْقِيهمْ‏)‏‏.‏

قال بعضُ فضلاء الأطباء‏:‏ ما أغزرَ فوائدَ هذه الكلمة النبوية المشتملة على حِكم إلهية، لا سِيَّما للأطباء، ولمن يُعالِج المرضى، وذلك أنَّ المريضَ إذا عاف الطعامَ أو الشراب، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض، أو لسقوط شهوته، أو نُقْصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها، وكيفما كان، فلا يجوز حينئذ إعطاءُ الغِذاء في هذه الحالة‏.‏

واعلم أنَّ الجوعَ إنما هو طلبُ الأعضاء للغذاء لتُخلِفَ الطبيعة به عليها عِوضَ ما يتحلل منها، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهىَ الجذبُ إلى المعدة، فيُحِسُّ الإنسان بالجوع، فيطلبُ الغِذاء، وإذا وُجِدَ المرض، اشتغلت الطبيعةُ بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء، أو الشراب، فإذا أُكْرِهَ المريضُ على استعمال شىء من ذلك، تعطلَّتْ به الطبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه، فيكون ذلك سبباً لضرر المريض، ولا سِيَّما في أوقات البُحْران، أو ضعفِ الحار الغريزى أو خمودِه، فيكون ذلك زيادةً في البلية، وتعجيل النازلة المتوقَّعةَ‏.‏ ولا ينبغى أن يُسـتعمل في هذا الوقتِ والحال إلا ما يحفظُ عليه قوَّته ويُقويها مِن غير استعمال مزعج للطبيعة ألبتة، وذلك يكونُ بما لَطُفَ قِوامه من الأشربة والأغذية، واعتدلَ مِزاجه كشراب اللَّينوفر، والتفاح، والورد الطَّرِى، وما أشبه ذلك، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط، وإنعاش قواه بالأراييح العَطِرَة الموافقة، والأخبار السارة، فإنَّ الطبيبَ خادمُ الطبيعة، ومعينها لا معيقها‏.‏

واعلم أنَّ الدم الجيد هو المُغَذِّى للبدن، وأنَّ البلغم دم فج قد نضج بعضَ النضج، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير، وعُدِم الغذاءُ، عطفت الطبيعةُ عليه، وطبخته، وأنضجته، وصيَّرته دماً، وغَذَّت به الأعضاء، واكتفت به عما سواه، والطبيعةُ هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته، وحراسته مدة حياته‏.‏

واعلم أنه قد يُحتاج في النَّدرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب، وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاطُ العقل، وعلى هذا فيكونُ الحديثُ من العامِّ المخصوص، أو من المُطْلَقِ الذي قد دلَّ على تقييده دليلٌ، ومعنى الحديث‏:‏ أنَّ المريضَ قد يعيش بلا غذاء أياماً لا يعيش الصحيحُ في مثلها‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنَّ الله يُطعِمُهم ويَسْقِيهِم‏)‏ معنى لطيفٌ زائد على ما ذكره الأطباءُ لا يعرفُه إلا مَن له عناية بأحكام القُلوب والأرواح، وتأثيرها في طبيعة البَدن، وانفعالِ الطبيعة عنها، كما تنفعل هي كثيراً عن الطبيعة، ونحن نُشير إليه إشارةً، فنقول‏:‏ النَّفْسُ إذا حصل لها ما يشغَلُها مِن محبوبٍ أو مكروهٍ أو مَخُوف، اشتغلَتْ به عن طلب الغِذاء والشراب، فلا تُحِسُّ بجوع ولا عطش، بل ولا حر ولا برد، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم، فلا تُحِسُّ به، وما من أحد إلا وقد وجدَ في نفسه ذلك أو شيئاً منه، وإذا اشتغلتْ النفس بما دهمها، وورد عليها، لم تُحِسَّ بألم الجوع، فإن كان الوارد مفرِّحاً قوىَّ التفريح، قام لها مَقامَ الغِذاء، فشبعتْ به، وانتعشتْ قُواها، وتضاعفَت، وجرت الدمويةُ في الجسد حتى تظهر في سطحه، فيُشرِقُ وجهه، وتظهر دمويتهُ، فإنَّ الفرح يُوجبُ انبساطَ دم القلب، فينبعثُ في العروق، فتمتلئُ به، فلا تطلبُ الأعضاءُ حَظَّها من الغذاءِ المعتاد لاشتغالها بما هو أحبُّ إليها، وإلى الطبيعة منه، والطبيعةُ إذا ظَفِرَتْ بما تُحبُّ، آثرتْه على ما هو دونه‏.‏

وإن كان الواردُ مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً، اشتغلتْ بمحاربتِه ومُقاومتِه ومُدافعته عن طلب الغذاء، فهى في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب‏.‏ فإن ظفرتْ في هذا الحرب، انتعشت قواها، وأخلَفت عليها نظيرَ ما فاتها من قوة الطعام والشراب، وإن كانت مغلوبةً مقهورة، انحطَّتْ قواها بحسب ما حصل لها من ذلك، وإن كانت الحربُ بينها وبين هذا العدوِّ سِجالاً، فالقوةُ تظهرُ تارةً وتختفى أُخرى، وبالجملة فالحربُ بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين، والنصرُ للغالبِ، والمغلوب إما قتيل، وإما جريح، وإما أسير‏.‏

فالمريض‏:‏ له مَددٌ مِنَ الله تعالى يُغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المَددُ بحسب ضعفِه وانكسارِه وانطِراحِه بين يدى ربه عَزَّ وجَلَّ، فيحصُل له من ذلك ما يُوجب له قُرباً من ربه، فإنَّ العبدَ أقربُ ما يكون من ربه إذا انكسر قلبُهُ، ورحمةُ ربه عندئذٍ قريبة منه، فإن كان ولياً له، حصل له من الأغذية القلبية ما تَقْوى به قُوَى طبيعته، وتَنتعشُ به قواه أعظمَ مِن قوتها، وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قَوى إيمانُه وحُبُّه لربه، وأُنسُه به، وفرحُه به، وقَوى يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجَدَ في نفسه من هذه القوة ما لا يُعَبَّرُ عنه، ولا يُدركُه وصف طبيب، ولا يَنالُه علمه‏.‏

ومَن غَلُظ طبعُه، وكَثُفتْ نفسُه عن فهم هذا والتصديق به، فلينظرْ حالَ كثير من عُشَّاقِ الصور الذين قد امتلأتْ قلوبُهم بحُب ما يعشَقوُنه من صُورةٍ، أو جاهٍ، أو مال، أو علم، وقد شاهد الناسُ من هذا عجائبَ في أنفسهم وفى غيرهم‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنه كان يُواصلُ في الصِّيام الأيامَ ذواتِ العددِ، وينهَى أصحابه عن الوِصال ويقول‏:‏ ‏(‏لستُ كَهَيْئَتِكُمْ إنى أَظَلُّ يُطعِمُنى رَبِّى ويَسْقِينى‏)‏‏.‏

ومعلومٌ أنَّ هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الإنسانُ بفمه، وإلا لم يكن مواصلاً، ولم يتحقق الفرق، بل لم يكن صائماً، فإنه قال‏:‏ ‏(‏أَظَلُّ يُطْعِمُنى رَبِّى ويَسْقِينى‏)‏‏.‏

وأيضاً فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوِصال، وأنه يَقدِرُ منه على ما لا يقدِرُون عليه، فلو كان يأكلُ ويشرب بفمه، لم يَقُلْ‏:‏ ‏(‏لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم ‏)‏، وإنما فَهِمَ هذا من الحديث مَنْ قَلَّ نصيبُه من غذاء الأرواح والقلوب، وتأثيرِهِ في القوة وإنعاشِها، واغتذائها به فوقَ تأثير الغِذاء الجسمانىِّ‏.‏‏.‏ والله الموفق‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج العُذْرة وفى العلاج بالسَّعوط

ثبت عنه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُم به الحِجَامةُ، والقُسْطُ البَحْرِىُّ، ولا تُعَذِّبُوا صِبْيانَكُمْ بالغَمْزِ من العُذْرَةِ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ و‏(‏المسند‏)‏ عنه من حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏ دَخَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، وعِندَها صَبِىٌ يَسِيلُ مَنخراهُ دماً، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏)‏ ‏؟‏ فقالوا‏:‏ به العُذرةُ، أو وَجعٌ في رأسه، فقال‏:‏ ‏(‏وَيلكُنَّ، لا تَقْتُلنَ أَوْلادَكُنَّ، أيُّما امرأةٍ أصابَ وَلَدَها عُذْرَةٌ أو وَجَعٌ في رأسِه، فَلْتَأخُذْ قُسْطاً هِنْدِيَّاً فَلْتَحُكَّه بماءٍ، ثم تُسْعِطْهُ إيَّاهُ‏)‏ فأمَرتْ عائشةُ رضى الله عنها فصُنِعَ ذلك بالصبىِّ، فبَرَأَ‏.‏

قال أبو عُبيدٍ عن أبى عُبيدَةَ‏:‏ العُذْرَةُ‏:‏ تهيُّجٌ في الحَلْق من الدم، فإذا عُولج منه، قيل‏:‏ قد عُذِرَ به، فهو معذورٌ‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ العُذْرَةُ‏:‏ قرحة تخرج فيما بين الأذُن والحلق، وتَعرض للصبيان غالباً‏.‏

وأما نفعُ السَّعوط منها بالقُسْط المحكوك، فلأن العُذْرَةُ مادتُها دم يغلب عليه البلغمُ، لكن تولده في أبدان الصبيان أكثر، وفى القُسْط تجفيفٌ يَشُدُّ اللَّهاةَ ويرفعها إلى مكانها، وقد يكون نفعُه في هذا الداء بالخاصية، وقد ينفع في الأدواء الحارة، والأدوية الحارة بالذات تارة، وبالعرض أُخرى‏.‏ وقد ذكر صاحب ‏(‏القانون‏)‏ في معالجة سُقوط اللَّهَاة‏:‏ القُسطَ مع الشَّب اليمانىِّ، وبذر المـرو‏.‏

والقُسْطُ البحرىُّ المذكور في الحديث‏:‏ هو العود الهندى، وهو الأبيض منه، وهو حلو، وفيه منافعُ عديدة‏.‏ وكانوا يُعالجون أولادَهم بغَمز اللَّهاة، وبالعِلاَق، وهو‏:‏ شىء يُعلِّقونه على الصبيان، فنهاهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفعُ للأطفال، وأسهلُ عليهم‏.‏

والسَّعوطُ‏:‏ ما يُصَبُّ في الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة ومُركَّبة تُدَق وتُنخل وتُعجن وتُجفف، ثم تُحَلُّ عند الحاجة، ويُسعط بها في أنف الإنسان، وهو مستلقٍ على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعُهما لتنخفض رأسُه، فيتمكن السَّعوطُ من الوصول إلى دماغه، ويُستخرج ما فيه من الداء بالعطاس، وقد مدح النبى صلى الله عليه وسلم التداوىَ بالسَّعوط فيما يُحتاج إليه فيه‏.‏

وذكر أبو داودَ في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ ‏(‏أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعطَ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج المفؤود

روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث مُجاهدٍ، عن سعد، قال‏:‏ ‏(‏مَرضتُ مرضاً، فأتَانِى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودنى، فَوَضَعَ يَدَه بين ثَديَىَّ حَتَّى وَجَدتُ بَرْدَها على فؤادى، وقال لى‏:‏ إنَّكَ رجُلٌ مَفْؤُودٌ فأْتِ الحارَثَ بن كَلَدَةَ من ثَقِيفٍ، فإنَّه رجلٌ يتطبَّبُ، فلْيأْخُذْ سبعَ تَمَراتٍ من عَجْوَةِ المدينةِ، فلْيَجأْهُنَّ بِنَواهُنَّ، ثم لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ‏)‏‏.‏

المفؤود‏:‏ الذي أُصيب فؤادُه، فهو يشتكيه، كالمبطون الذي يشتكى بطنه‏.‏

واللَّدُود‏:‏ ما يُسقاه الإنسانُ من أحد جانبى الفم‏.‏

وفى التَّمْر خاصيَّةٌ عجيبةٌ لهذا الداء، ولا سِـيَّما تمرَ المدينة، ولا سِـيَّما العجوة منه، وفى كونها سبعاً خاصيةٌ أُخرى، تُدرَك بالوحى، وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من حديث عامر بن سعد بن أبى وَقَّاصٍ، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ تَصَبَّحَ بسبعِ تَمَرَاتٍ من تَمْرِ العَالِيَة لم يَضُرَّهُ ذلك اليومَ سَمٌ ولا سِحْرٌ‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏مَن أكل سَبْعَ تمراتٍ ممَّا بَيْن لاَبَتَيْها حينَ يُصبحُ، لم يَضُرَّهُ سَمٌ حتى يُمْسِى‏)‏‏.‏

والتَّمْرُ حارٌ في الثانية، يابس في الأُولى‏.‏ وقيل‏:‏ رطبٌ فيها‏.‏ وقيل‏:‏ معتدل، وهو غذاءٌ فاضلٌ حافظٌ للصحة لا سِيَّما لمن اعتاد الغِذَاءَ به، كأهل المدينة وغيرهم، وهو من أفضل الأغذية في البلاد الباردةِ والحارةِ التي حرارتُها في الدرجة الثانية، وهو لهم أنفعُ منه لأهل البلاد البارِدةِ، لبرودةِ بواطن سكانها، وحرارةِ بواطن سكان البلاد الباردة، ولذلك يُكثِرُ أهلُ الحجاز واليمن والطائف، وما يليهم مِن البلاد المشابهةِ لها من الأغذية الحارة ما لا يتَأتَّى لغيرهم، كالتَّمْر والعسل، وشاهدناهم يَضَعُون في أطعمتهم من الفُلْفُل والزَّنْجبيل، فوقَ ما يضعه غيرُهم نحوَ عشرة أضعاف أو أكثر، ويأكلون الزَّنْجبيل كما يأكل غيرُهم الحَلْوى، ولقد شاهدتُ من يَتَنَقَّل به منهم كما يتنقل بالنُّقْلِ، ويوافقهم ذلك ولا يضرُّهم لبرودةِ أجوافهم، وخروج الحرارة إلى ظاهر الجسد، كما تُشاهَدُ مياهُ الآبار تبرُدُ من الصيف، وتسخن في الشتاء، وكذلك تُنضج المعدة من الأغذية الغليظة في الشتاء ما لا تُنضجه في الصيف‏.‏

وأما أهل المدينة، فالتَّمْر لهم يكاد أن يكونَ بمنزلة الحِنطة لغيرهم، وهو قوتُهم ومادتُهم، وتمرُ العاليةِ مِن أجود أصناف تمرهم، فإنه متينُ الجسم، لذيذُ الطعم، صادق الحلاوة، والتَّمْر يدخل في الأغذية والأدوية والفاكهة، وهو يُوافق أكثر الأبدان، مقوٍّ للحار الغريزى، ولا يتولَّد عنه من الفَضلات الرديئة ما يتولَّد عن غيره من الأغذية والفاكهة، بل يمنع لمن اعتاده مِن تعفن الأخلاط وفسادِها‏.‏

وهذا الحديثُ من الخطاب الذي أُريد به الخاصُّ، كأهلِ المدينة ومَن جاوَرَهم، ولا ريبَ أنَّ للأمكنة اختصاصاً ينفع كثير من الأدوية في ذلك المكان دونَ غيره، فيكون الدواء الذي قد ينبت في هذا المكان نافعاً من الداء، ولا يوجد فيه ذلك النفعُ إذا نبت في مكان غيره لتأثير نفس التُّربة أو الهواء، أو هما جميعاً، فإنَّ للأرض خواص وطبائع يُقارب اختلافُها اختلافَ طبائع الإنسان، وكثيرٌ من النبات يكون في بعض البلاد غذاءً مأكولاً، وفى بعضها سُمّاً قاتلاً، ورُبَّ أدويةٍ لقوم أغذية لآخرين، وأدوية لقوم من أمراض هي أدويةٌ لآخرينَ في أمراض سواها؛ وأدوية لأهل بلدٍ لا تُناسب غيرهم، ولا تنفعهم‏.‏

وأمَّا خاصية السَّبْعِ، فإنها قد وقعت قدْراً وشرعاً، فخلق الله عَزَّ وَجَلَّ السَّمواتِ سبعاً، والأرضَينَ سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعاً، والسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ورمىَ الجمارِ سبعاً سبعاً، وتكبيراتِ العيدين سبعاً في الأولى‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مُرُوهم بالصَّلاةِ لسَبْعٍ‏)‏، ‏(‏وَإِذَا صَارَ للغُلامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيِّرَ بين أبويه‏)‏ في رواية‏.‏

وفى رواية أخرى‏:‏ ‏(‏أبُوه أحقُّ به من أُمِّهِ‏)‏، وفى ثالثة‏:‏ ‏(‏أُمُّهُ أحَقُّ به‏)‏ وأمر النبىَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبعِ قِرَبٍ، وسَخَّر الله الريحَ على قوم عادٍ سبع ليال، وَدَعَا النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعينَه اللهُ على قومه بسبعٍ كسبعِ يوسف، ومَثَّلَ اللهُ سبحانه ما يُضاعِفُ به صَدَقَةَ المتصدِّقِ بِحَبَّةٍ أنبتت سبعَ سنابل في كلِّ سُنبلة مائة حَبَّةٍ، وَالسَّنابل التي رآها صاحبُ يوسفَ سبعاً، والسنين التي زرعوها دأْباً سبعاً، وتُضاعَفُ الصدقة إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، ويدخل الجنََّة من هذه الأُمَّة بغير حساب سبعون ألفاً‏.‏

فلا ريب أنَّ لهذا العدد خاصيَّة ليست لغيره، والسبعة جمعت معانىَ العدد كله وخواصه، فإن العددَ شَفْعٌ ووَتْرٌ‏.‏ والشَفْع‏:‏ أول وثان‏.‏ والوَتْر‏:‏ كذلك، فهذه أربع مراتب‏:‏ شفع أول، وثان‏.‏ ووتر أول، وثان، ولا تجتمع هذه المراتبُ في أقلِّ مِن سبعة، وهى عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة، أعنى الشَفْع والوَتْر، والأوائل والثوانى، ونعنى بالوَتْر الأول، الثلاثة، وبالثانى الخمسة؛ وبالشَفْع الأول الاثنين، وبالثانى الأربعة، وللأطباء اعتناءٌ عظيم بالسبعة، ولا سِيَّما في البحارين‏.‏ وقد قال ‏(‏بقراط‏)‏‏:‏ كل شىء في هذا العالَم فهو مقدَّر على سبعة أجزاء، والنجوم سبعة، والأيام سبعة، وأسنان الناس سبعة، أولها طفل إلى سبع، ثم صبى إلى أربع عشرة، ثم مُراهِقٌ، ثم شابٌ، ثم كهلٌ، ثم شيخٌ، ثم هَرِمٌ إلى منتهى العمر، والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه، وقدره في تخصيص هذا العدد، هل هو لهذا المعنى أو لغيره ‏؟‏

ونفع هذا العدد مِن هذا التَّمْر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السُّم والسِّحر، بحيث تمنع إصابته، من الخواصِّ التي لو قالها ‏(‏بقراط‏)‏ و‏(‏جالينوس‏)‏ وغيرهما من الأطباء، لتلقَّاها عنهم الأطباءُ بالقبول والإذعان والانقياد، مع أنَّ القائل إنما معه الحَدْسُ والتخمين والظنُّ، فمَن كلامُه كلُّه يقينٌ، وقطعٌ وبرهانٌ ووحىٌ، أولى أن تُتلقى أقوالُه بالقبول والتسليم، وترك الاعتراض‏.‏ وأدوية السُّموم تارة تكون بالكيفية، وتارة تكون بالخاصية كخواص كثير من الأحجار والجواهر واليواقيت‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل

ويجوز نفعُ التَّمْر المذكور في بعض السموم، فيكونُ الحديثُ مِن العام المخصوص، ويجوز نفعُه لخاصية تلك البلد، وتلك التُّرْبة الخاصة من كل سُمٍّ، ولكن ههنا أمر لا بد من بيانه، وهو أنَّ مِن شرط انتفاع العليل بالدواء قبولَه، واعتقاد النفعُ به؛ فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العِلَّة، حتى إنَّ كثيراً من المعالجات ينفع بالاعتقاد، وحُسْن القبول، وكمال التلقِّى، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولُها له، وتفرحُ النفس به، فتنتعشُ القُوَّة، ويقوى سلطانُ الطبيعة، وينبعثُ الحار الغريزى، فيُساعد على دفع المؤذى، وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعاً لتلك العِلَّة، فيقطعُ عملَه سوءُ اعتقاد العليل فيه، وعدمُ أخذ الطبيعة له بالقبول، فلا يجدى عليها شيئاً‏.‏ واعتبرْ هذا بأعظم الأدوية والأشفية، وأنفعِها للقلوب والأبدان، والمعاش والمعاد، والدنيا والآخرة، وهو القرآن الذي هو شفاءٌ مِن كل داء، كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع، بل لا يزيدها إلا مرضاً إلى مرضها، وليس لِشفاء القلوب دواءٌ قَطُّ أنفعَ مِن القرآن، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يُغادر فيها سقماً إلا أبرأه، ويحفظ عليها صحتها المطلقة، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذٍ ومُضرٍ، ومع هذا فإعراضُ أكثرِ القلوب عنه، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك، وعدمُ استعماله، والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به، وغلبت العوائدُ، واشتد الإعراض، وتمكنت العللُ والأدواءُ المزمنة من القلوب، وتربَّى المرضى والأطباء على علاج بنى جنسهم وما وضعه لهم شيوخُهم، ومَنْ يُعظمونه ويُحسنون به ظنونهم، فعظم المصابُ، واستحكم الداءُ، وتركَّبت أمراضٌ وعللٌ أعيَا عليهم عِلاجُها، وكلمَّا عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقَمَ أمرها، وقويت، ولسانُ الحال يُنادى عليهم‏:‏

ومِنَ العَجائِبِ والعَجائِبُ جَمَّةٌ ** قُرْبُ الشِّفَاءِ وما إليهِ وصولُ

كَالْعِيسِ في الْبيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّما ** والماءُ فوق ظُهُورِهَا مَحْمولُ

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها، ويُقوِّى نفعَها

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عبد الله بن جعفر، قال‏:‏ ‏(‏رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأكل الرُّطَبَ بالقِثَّاء‏)‏‏.‏

والرُّطب‏:‏ حارٌ رَطْبٌ في الثانية، يُقَوِّى المَعِدَة الباردة، ويُوافقها، ويزيد في الباه، ولكنه سريعُ التعفُّن، معطِّش مُعَكِّر للدم، مُصَدِّع مُوَلِّد للسُّدد، ووجع المثانة، ومُضِرٌ بالأسنان، والقثاء بارد رطب في الثانية، مسكن للعطش، منعِش للقُوَى بشمه لما فيه من العطرية، مُطفىءُ لحرارة المَعِدَة الملتهبة، وإذا جُفِّف بزره، ودُقَّ واستُحْلِبَ بالماء، وشُرِب، سكَّن العطش، وأدرَّ البول، ونفع من وجع المثانة‏.‏ وإذا دُقَّ ونُخِل، ودُلك به الأسنان، جلاها، وإذا دُقَّ ورقُه وعُمِل منه ضماد مع المَيْبَخْتَج، نفع من عضة الكلب الكَلِب‏.‏

وبالجملة‏:‏ فهذا حار، وهذا بارد، وفى كل منهما صلاحُ الآخر، وإزالة لأكثر ضرره، ومقاومة كل كيفية بضدها، ودفع سَوْرتِها بالأُخرى، وهذا أصل العِلاج كله، وهو أصل في حفظ الصحة، بل علم الطب كله يُستفاد من هذا‏.‏ وفى استعمال ذلك وأمثالِهِ في الأغذية والأدوية إصلاحٌ لها وتعديلٌ، ودفعٌ لما فيها من الكيفيات المُضِرَّة لما يُقابلها، وفى ذلك عَوْنٌ على صحة البدن، وقُوَّته وخِصبِه، قالت عائشة رضى الله عنها‏:‏ سَمَّنونى بكلِّ شىء، فلم أسَمْن، فسَمَّنونى بالقِثَّاء والرُّطَب، فسمنت‏.‏

وبالجملة‏:‏ فدفعُ ضررِ البارد بالحار، والحار بالبارد، والرَّطبِ باليابس، واليابس بالرَّطب، وتعديلُ أحدِهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات، وحفظ الصحة‏.‏ ونظيرُ هذا ما تقدَّم من أمره بالسَّنا والسَّنُوت، وهو العسل الذي فيه شىء من السمن يصلحُ به السَّنَا، ويُعدله، فصلوات الله وسلامه على مَن بُعث بعمارة القلوب والأبدان، وبمصالح الدنيا والآخرة‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الحِميـة

الدواء كله شيئان‏:‏ حِميةٌ وحفظ صحة‏.‏ فإذا وقع التخليطُ، احتِيجَ إلى الاستفراغ الموافق، وكذلك مدارُ الطب كله على هذه القواعد الثلاثة‏.‏

والحِمية حِميتان‏:‏ حِمية عمَّا يجلِبُ المرض، وحِمية عما يزيده، فيقف على حاله، فالأولى‏:‏ حِمية الأصحاءِ‏.‏ والثانية‏:‏ حِمية المرضى‏.‏ فإنَّ المريض إذا احتمى، وقف مرضُه عن التزايد، وأخذت القُوَى في دفعه‏.‏ والأصل في الحِمية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً‏}‏ ‏[‏المائدة ‏:‏6 ‏]‏، فَحَمَى المريضَ من استعمال الماء، لأنه يضرُّه‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ وغيره، عن أُمِّ المنذِر بنت قيس الأنصارية، قالت‏:‏ دَخَلَ علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علىّ، وعلىٌ ناقِهٌ من مرض، ولنا دوالى مُعلَّقة، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وقام علىٌّ يأكل منها، فطفِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلىٍّ‏:‏ ‏(‏إنك ناقِةٌ‏)‏ حَتَّى كفَّ‏.‏ قالت‏:‏ وصنعت شعيراً وسِلْقاً، فجئت به، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ‏:‏ ‏(‏مِنْ هذا أَصِبْ، فإنه أنفعُ لَكَ‏)‏، وفى لفظ فقال‏:‏ ‏(‏مِنْ هذا فَأصِبْ، فإنه أوفَقُ لَكَ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ أيضاً عن صُهَيْبٍ، قال‏:‏ قدمِتُ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبزٌ وتمرٌ، فقال‏:‏ ‏(‏ادْنُ فَكُلْ‏)‏، فأخذتُ تمراً فأكلتُ، فقال‏:‏ ‏(‏أتأكُلُ تمراً وبِكَ رَمَدٌ‏)‏ ‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله؛ أمضُغُ مِنَ الناحية الأخرى، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفى حديث محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبداً، حماه مِنَ الدُّنيا، كما يَحْمِى أحَدُكُم مريضَه عَنِ الطَّعَامِ والشَّرابِ‏)‏‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏إنَّ اللهَ يَحْمِى عَبْدَه المؤمِنَ مِنَ الدُّنيا‏)‏‏.‏

وأما الحديثُ الدائرُ على ألسنةِ كثير من الناس‏:‏ ‏(‏الحِميةُ رأسُ الدواءِ، والمَعِدَةُ بيتُ الداءِ، وعوِّدُوا كلَّ جسم ما اعتاد‏)‏ فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث ابن كلَدَةَ طبيب العرب، ولا يصحُّ رفعُه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، قاله غيرُ واحد من أئمة الحديث‏.‏ ويُذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنَّ المَعِدَةَ حوضُ البدن، والعُروق إليها واردةٌ، فإذا صحَّت المَعِدَةُ صدرت العروقُ بالصحة، وإذا سَقِمَتِ المَعِدَةُ، صدرت العروقُ بالسقم‏)‏‏.‏

وقال الحارث‏:‏ رأسُ الطِّبِّ الحِمية، والحِمية عندهم للصحيح في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والنَّاقِه، وأنفعُ ما تكون الحِمية للنَّاقهِ من المرض، فإنَّ طبيعته لم ترجع بعدُ إلى قُوَّتها، والقوة الهاضمة ضعيفة، والطبيعة قابلة، والأعضاء مستعدة، فتخليطُه يُوجب انتكاسَها، وهو أصعب من ابتداءِ مرضه‏.‏

واعلم أنَّ في منع النبىِّ صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ من الأكل من الدَّوالى، وهو ناقِهٌ أحسنَ التدبير، فإنَّ الدَّوالىَ أَقْنَاءٌ من الرُّطَبُ تعُلَّقُ في البيت للأكل بمنزلة عناقيدِ العِنَب، والفاكهةُ تضرُّ بالناقِه من المرض لسُرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن بعد من قُوَّتها، وهى مشغولةٌ بدفع آثار العِلَّة، وإزالتها مِن البدن‏.‏

وفى الرُّطَبِ خاصةً نوع ثقلٍ على المَعِدَة، فتشتغل بمعالجتِه وإصلاحه عما هي بصدده من إزالة بقية المرض وآثاره، فإما أن تقف تلك البقية، وإما أن تتزايدَ، فلمَّا وُضع بين يديه السِّلْقُ والشعيرُ، أمره أن يُصيب منه، فإنه من أنفع الأغذية للناقِه، فإنَّ في ماء الشعير من التبريد والتغذية، والتلطيفِ والتليين، وتقويةِ الطبيعة ما هو أصلَح للناقِه، ولا سِيَّما إذا طُبِخَ بأُصول السَّلق، فهذا مِن أوفق الغذاء لمن في مَعِدَتِهِ ضعفٌ، ولا يتولَّد عنه من الأخلاط ما يُخاف منه‏.‏

وقال زيدُ بن أسلم‏:‏ حَمَى عُمَرُ رضى الله عنه مريضاً له، حتى إنه من شدة ما حماه كان يَمَصُّ النَّوَى‏.‏

وبالجملة‏:‏ فالحِمية من أنفع الأدوية قبل الداء، فتمنع حصولَه، وإذا حصل، فتمنع تزايدَه وانتشارَه‏.‏

فصل

ومما ينبغى أن يُعلم أنَّ كثيراً مما يُحمى عنه العليلُ والناقِه والصحيحُ، إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشىءَ اليسيرَ الذي لا تَعْجِزُ الطبيعةُ عن هضمه، لم يضرَّه تناوُله، بل ربما انتفع به، فإنَّ الطبيعة والمَعِدَة تتلقيانه بالقبول والمحبَّة، فيُصلحان ما يُخشى مِن ضرره، وقد يكون أنفعَ مِن تناول ما تكرهه الطبيعةُ، وتدفعهُ من الدواء، ولهذا أقرَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم صُهَيْباً وهو أرمدُ على تناولِ التَّمَرَاتِ اليسيرة، وعلم أنها لا تَضُرُّه‏.‏

ومن هذا ما يُروى عن علىٍّ أنه دخل عَلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو أرمَدُ، وبَيْنَ يَدَىْ النبىِّ صلى الله عليه وسلم تمرٌ يأكلُه، فقال‏:‏ ‏(‏يا علىُّ؛ تشتهِيهِ‏)‏ ‏؟‏ وَرَمَى إليه بتمرة، ثم بأُخرى حَتَّى رَمَى إليه سَبْعاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏حَسْبُكَ يا علىٌ‏)‏‏.‏

ومن هذا ما رواه ابن ماجه في ‏(‏سننهِ‏)‏ من حديث عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم عادَ رَجُلاً، فقال له‏:‏ ‏(‏ما تَشتَهِى‏)‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ أشتَهِى خُبْزَ بُرٍّ وفى لفظٍ‏:‏ أشتَهِى كَعْكَاً فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَن كانَ عندَهُ خُبزُ بُرٍّ، فَليبعَثْ إلى أخيه‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏إذا اشتَهَى مريضُ أحدِكَم شيئاً، فَلْيُطْعِمْهُ‏)‏‏.‏

ففى هذا الحديث سرٌ طبىٌ لطيف، فإنَّ المريضَ إذا تناول ما يشتهيه عن جُوع صادق طبيعى، وكان فيه ضررٌ ما، كان أنفعَ وأقلَّ ضرراً مما لا يشتهيه، وإن كان نافعاً في نفسه، فإنَّ صِدْق شهوتِهِ، ومحَبَة الطبيعة يدفع ضررَه، وبُغض الطبيعة وكراهتها للنافع، قد يَجْلِبُ لها منه ضرراً‏.‏

وبالجملة‏:‏ فاللذيذُ المشتَهَى تُقبِلُ الطبيعةُ عليه بعناية، فتهضِمُه على أحمَدِ الوجوه، سِيَّما عند انبعاثِ النفس إليه بصدْقِ الشهوة، وصحةِ القوة‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الرَّمدِ بالسكون، والدَّعةِ، وترْكِ الحركةِ، والحِميةِ مما يَهيج الرَّمد

وقد تقدَّم أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم حَمَى صُهَيْباً من التَّمْر، وأنكر عليه أكْلَه، وهو أرمدُ، وَحَمَى علياً من الرُّطَبِ لـمَّا أصابه الرَّمدُ‏.‏

وذكر أبو نُعَيْم في كتاب ‏(‏الطب النبوى‏)‏‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم ‏(‏كان إذا رَمِدَتْ عينُ امرأةٍ من نسائه لم يأتِهَا حَتَّى تَبرَأَ عينُها‏)‏‏.‏

الرَّمدُ‏:‏ ورمٌ حار يَعرِضُ في الطبقة الملتحمة من العَيْن، وهو بياضُها الظاهر، وسببُه انصبابُ أحد الأخلاط الأربعة، أو ريحٌ حارة تكثُر كميتها في الرأس والبدن، فينبعِثُ منها قِسطٌ إلى جَوْهر العَيْن، أو ضربةٌ تُصيب العَيْن، فتُرسل الطبيعةُ إليها مِن الدَّم والروح مقداراً كثيراً، تَرُومُ بذلك شفاءَها مما عَرَضَ لها، ولأجل ذلك يَرِمُ العضو المضروب، والقياسُ يوجب ضده‏.‏

واعلم أنه كما يرتفعُ من الأرض إلى الجو بُخاران، أحدهما‏:‏ حار يابس، والأخرُ‏:‏ حارٌ رَطب، فينعقدان سحاباً متراكماً، ويمنعان أبصارَنا مِن إدراك السماء، فكذلك يرتفعُ من قعر المَعِدَة إلى منتهاها مِثلُ ذلك، فيمنعانِ النظرَ، ويتولَّد عنهما عِلَلٌ شَتَّى، فإن قويت الطبيعةُ على ذلك ودفعته إلى الخياشيم، أحدث الزُّكامَ، وإن دفعته إلى اللَّهاة والمَنْخِرَين، أحدث الخُناقَ، وإن دفعتْه إلى الجَنْبِ، أحدث الشَّوْصةَ، وإن دفعتْه إلى الصدر، أحدث النَّزلةَ، وإن انحدر إلى القلب، أحدث الخَبْطَةَ، وإن دفعته إلى العَيْن، أحدث رمداً، وإن انحدر إلى الجوف، أحدث السَّيَلانَ، وإن دفعته إلى منازل الدِّماغ، أحدث النِّسيانَ، وإن ترطبت أوعيةُ الدماغ منه وامتلأت به عروقُه، أحدث النومَ الشديد، ولذلك كان النوم رَطباً، والسهرُ يابساً‏.‏ وإن طلب البخارُ النفوذَ من الرأس، فلم يقدِِرْ عليه، أعقبه الصُّداع والسهر، وإن مال البخار إلى أحد شِقَّى الرأس، أعقبه الشقيقة، وإن ملك قِمَّةَ الرأس ووسَطَ الهامة، أعقبه داءُ البَيْضة، وإن برد منه حِجابُ الدماغ أو سخن أو ترطَّب وهاجتْ منه أرياحٌ، أحدث العُطاسَ، وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزى، أحدث الإغماءَ والسُّكاتَ، وإن أهاج المِرَّةَ السوداءَ حتى أظلم هواءُ الدماغ، أحدث الوسواس، وإن فاض ذلك إلى مجارى العَصَب، أحدث الصَّرْع الطبيعىَّ، وإن ترطبت مجامعُ عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه، أعقبه الفالِج، وإن كان البُخار من مِرَّةٍ صفراءَ ملتهبة محمية للدماغ، أحدث البِرْسامَ، فإن شَرَكه الصدرُ في ذلك، كان سرساماً، فافهم هذا الفصلَ‏.‏

والمقصودُ‏:‏ أنَّ أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هائجة في حالِ الرَّمَد، والجِماعُ مما يَزيد حركتَها وثَوَرانَها، فإنَّه حركةٌ كلية للبدن والروح والطبيعة‏.‏ فأمَّا البدن، فيسخُنُ بالحركة لا محالة، والنفس تشتدُّ حركتها طلباً للذة واستكمالها، والروحُ تتحرك تبعاً لحركة النفس والبدن، فإنَّ أول تعلق الروح من البدن بالقلب، ومنه ينشأ الروحُ، وتَنبثُّ في الأعضاء‏.‏ وأما حركةُ الطبيعة، فلأجل أن تُرسِلَ ما يجب إرسالُه مِن المَنِىِّ على المقدار الذي يجبُ إرسالُه‏.‏

وبالجملة‏:‏ فالجِماعُ حركة كلية عامة يتحرَّك فيها البدن وقُواه، وطبيعته وأخلاطه، والروحُ والنفس، فكلُ حركة فهى مثيرة للأخلاط مرققةٌ لها تُوجب دفعَها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة، والعَيْنُ في حال رمدها أضعفُ ما تكون، فأضرُّ ما عليها حركةُ الجِمَاع‏.‏

قال ‏(‏بقراط‏)‏ في كتاب ‏(‏الفصول‏)‏‏:‏ وقد يَدُلُّ ركوبُ السفُن أنَّ الحركة تُثَوِّرُ الأبدان‏.‏ هذا مع أنَّ في الرَّمد منافعَ كثيرة، منها ما يستدعيه مِن الحِمية والاستفراغ، وتنقيةِ الرأس والبدن من فضلاتهما وعُفوناتهما، والكفِّ عما يُؤذى النفس والبدن من الغضب، والهم والحزن، والحركاتِ العنيفة، والأعمال الشاقة‏.‏ وفى أثر سَلَفىٍّ‏:‏ لا تَكرهوا الرَّمدَ، فإنه يقطع عروق العَمَى‏.‏

ومن أسباب علاجه ملازمةُ السكون والراحة، وتركُ مس العَيْن والاشتغال بها، فإنَّ أضداد ذلك يُوجب انصبابَ المواد إليها‏.‏ وقد قال بعضُ السَّلَف‏:‏ مَثلُ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ مَثَلُ العَيْن، ودَوَاءُ العَيْنِ تَرْكُ مَسِّها‏.‏ وقد رُوى في حديث مرفوع، الله أعلم به‏:‏ ‏(‏علاجُ الرَّمد تَقطيرُ الماءِ الباردِ في العَيْن‏)‏ وهو من أنفع الأدوية للرَّمد الحار، فإنَّ الماء دواء بارد يُستعان به على إطفاء حرارةِ الرَّمد إذا كان حاراً، ولهذا قال عبدُ الله بن مسعود رضى الله عنه، لامرأتِه زينبَ وقد اشتَكتْ عينُها‏:‏ لو فَعلتِ كما فَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيراً لكِ وأجدَرَ أن تُشْفى، تَنْضَحِينَ في عينِكِ الماءَ، ثم تقولينَ‏:‏ ‏(‏أَذهِبْ البأْسَ ربَّ النَّاس، واشْفِ أنتَ الشَّافِى، لا شِفاءَ إلا شِفَاؤك، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً‏)‏‏.‏ وهذا مما تقدَّم مراراً أنه خاصٌ ببعض البلاد، وبعضِ أوجاع العَيْن، فلا يُجعل كلامُ النبوَّة الجزئىُّ الخاص كُلياً عاماً، ولا الكُلىُّ العام جزئياً خاصاً، فيقعَ من الخطإ، وخلاف الصواب ما يقعُ‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الخَدَران الكُلِّى الذي يَجْمُدُ معه البدنُ

ذكر أبو عُبَيْدٍ في ‏(‏غريب الحديث‏)‏ من حديث أبى عثمانَ النَّهْدِىِّ‏:‏ أنَّ قوماً مرُّوا بشجرةٍ فأكلُوا منها، فكأنما مرَّتْ بهم ريحٌ، فأجمدتْهُم، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَرِّسُوا الماءَ في الشِّنَانِ، وصُـبُّوا عليهم فيما بين الأذانَيْن‏)‏، ثم قال أبو عُبَيْد‏:‏ ‏(‏قَرِّسُوا‏)‏‏:‏ يعنى بَرِّدوا‏.‏ وقولُ الناس‏:‏ قد قَرَسَ البردُ، إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد‏.‏ والشِّنان‏:‏ الأسقِيةُ والقِرَبُ الخُلقانُ‏:‏ يُقال للسِّقاء‏:‏ شَنٌ، وللقِربة‏:‏ شَـنَّة‏.‏ وإنما ذكر الشِّنانَ دون الجُدُدِ لأنها أشدُّ تبريداً للماء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏بين الأذَانَين‏)‏، يعنى‏:‏ أذانَ الفجر والإقامة، فسمى الإقامة أذاناً‏.‏‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

قال بعضُ الأطباء‏:‏ وهذا العلاجُ مِن النبىِّ صلى الله عليه وسلم من أفضلِ علاج هذا الداء إذا كان وقوعُه بالحجاز، وهى بلاد حارة يابسةٌ، والحارُ الغريزىُّ ضَعيف في بواطن سكانها، وصبُّ الماء البارد عليهم في الوقت المذكور وهو أبردُ أوقاتِ اليوم يوجبُ جَمْعَ الحار الغريزى المنتشر في البدن الحامل لجميع قُواه، فيقوى القوة الدافعة، ويجتمعُ من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محلُّ ذاك الداء، ويستظهر بباقى القُوَى على دفع المرض المذكور، فيدفعه بإذن الله عَزَّ وجَلَّ،

ولو أن ‏(‏بقراط‏)‏ أو ‏(‏جالينوس‏)‏ أو غيرَهما، وصف هذا الدواء لهذا الداء، لخَضَعَتْ له الأطباءُ، وعَجِبُوا من كمال معرفته‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذُّباب وإرشاده إلى دفع مَضَرَّات السموم بأضدادها

في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبى هُريرة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا وقَعَ الُّذَبابُ في إناءِ أحَدِكُم، فامْقُلُوه، فإنَّ في أحد جنَاحيهِ داءً، وفى الآخرِ شِفَاءً‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ عنِ أبى سعيد الخُدْرىِّ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أحَدُ جَناحَى الذُّبابِ سَمٌ، والآخَرُ شِفَاءٌ، فإذا وَقَعَ في الطَّعَام، فامْقُلُوه، فإنه يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ‏)‏‏.‏

هذا الحديث فيه أمران‏:‏ أمرٌ فقهىٌ، وأمرٌ طِبِّىٌ

فأما الفقهى‏.‏‏.‏ فهو دليلٌ ظاهر الدلالةِ جدًا على أنَّ الذُّباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا يُنجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السَّلَف مخالفٌ في ذلك‏.‏ ووَجهُ الاستدلال به أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر بمَقْلِهِ، وهو غمسُه في الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سِيَّما إذا كان الطعامُ حاراً‏.‏ فلو كان يُنجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، ثم عُدِّىَ هذا الحكمُ إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزُّنْبُور، والعنكبوت، وأشباهِ ذلك‏.‏ إذ الحكمُ يَعُمُّ بعُموم عِلَّتِه، وينتفى لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاءِ عِلَّّته‏.‏

ثم قال مَن لم يحكم بنجاسة عظم الميتةِ‏:‏ إذا كان هذا ثابتاً في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرُّطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعدُ عن الرُّطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا في غاية القوة، فالمصيرُ إليه أولى‏.‏

وأول مَن حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلَّم بهذه اللَّفظة، فقال‏:‏ ما لا نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخَعىُّ وعنه تلقاها الفقهاءُ والنفس في اللُّغة‏:‏ يُعَبَّر بها عن الدم، ومنه نَفَست المرأة بفتح النون إذا حاضت، ونُفِست بضمها إذا ولدت‏.‏

وأما المعنى الطبىُّ، فقال أبو عُبَيْد‏:‏ معنى ‏(‏امْقُلُوه‏)‏‏:‏ اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداءُ، يقال للرجلين‏:‏ هما يَتمَاقلان، إذا تغاطَّا في الماء‏.‏

واعلم أنَّ في الذُّباب عندهم قُوَّةً سُمِّـيَّةً يدل عليها الورم، والحِكَّة العارِضة عن لسعِه، وهى بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُقابلَ تلك السُّمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمسَ كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادةَ السُّمية المادة النافعة، فيزول ضررُها‏.‏ وهذا طِبٌ لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوَّة، ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويُقِرُّ لمن جاء به بأنه أكملُ الخلق على الإطلاق، وأنه مُؤَيَّد بوحى إلهى خارج عن القُوَى البَشَرية‏.‏

وقد ذكر غيرُ واحد من الأطباء أن لسع الزُّنبور والعقرب إذا دُلِكَ موضعه بالذُّباب نفع منه نفعاً بيِّناً، وسكَّنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء، وإذا دُلِكَ به الورمُ الذي يخرج في شعر العَيْن المسمَّى شَعْرَة بعد قطع رؤوس الذُّباب، أبرأه‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج البَثْرَة

ذكر ابن السُّنى في كتابه عن بعض أزواج النبىِّ صلى الله عليه وسلم، قالت‏:‏ دخل علىَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج في أصبعى بَثْرَةٌ، فقال‏:‏ ‏(‏عِنْدَكِ ذَرِيرةٌ‏)‏ ‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ضَعيها عليها‏)‏، وقُولى‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ مُصَغِّرَ الكَبِيرِ، ومُكبِّرَ الصَغِيرِ، صَغِّرْ مَا بِى‏)‏‏.‏

الذَّرِيرةُ‏:‏ دواء هندى يُتخذ من قَصب الذَّريرة، وهى حارة يابسة تنفعُ مِن أورام المَعِدَة والكَبِدِ والاستسقاء، وتُقوِّى القلب لطيبها،

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشة أنها قالت‏:‏ طيَّبْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بيَدِى بذَرِيرةٍ في حَجَّةِ الوَداع للحِلِّ والإحْرَامِ‏.‏

والبَثْرَة‏:‏ خُراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترقُّ مكاناً من الجسد تخرج منه، فهى محتاجة إلى ما يُنضجها ويُخرجها، والذَّريرةُ أحدُ ما يفعل بها ذلك، فإنَّ فيها إنضاجاً وإخراجاً مع طِيب رائحتها، مع أنَّ فيها تبريداً للنارية التي في تلك المادة، ولذلك قال صاحب ‏(‏القانون‏)‏‏:‏ إنه لا أفضل لحرق النار من الذَّرِيرة بدُهنِ الوردِ والخل‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الأورام والخُرَاجات التي تبرأ بالبَطِّ والبَزْلِ

يُذكر عن علىٍّ أنه قال‏:‏ دخلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعودُه بظهره ورمٌ، فقالوا‏:‏ يا رسول الله؛ بهذه مِدَّةٌ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏بُطُّوا عنه‏)‏، قال علىُّ‏:‏ فما بَرِحتُ حتى بُطَّتْ، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم شاهدٌ‏.‏

ويُذكر عن أبى هريرة‏:‏ أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر طبيباً أن يَبُطَّ بطن رجل أجْوَى البطن، فقيل‏:‏ يا رسول الله؛ هل ينفع الطّبُّ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏الذي أنْزَلَ الداء، أنزل الشِّفَاء، فِيمَا شاء‏)‏‏.‏

الورم‏:‏ مادة في حجم العضو لفضل مادة غيرِ طبيعية تنصبُّ إليه، ويُوجد في أجناس الأمراض كُلِّها، والموادُ التي تكون عنها من الأخلاط الأربعة، والمائية، والريح، وإذا اجتمع الورمُ سُمى خُرَاجاً، وكلُّ ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء‏:‏ إما تحلل، وإما جمع مِدَّة، وإما استحالةٍ إلى الصَّلابة‏.‏ فإن كانت القوة قوية، استولت على مادة الورم وحلَّلته، وهى أصلحُ الحالات التي يؤول حالُ الورم إليها، وإن كانت دون ذلك، أنضجت المادة، وأحالتها مِدَّةً بيضاءَ، وفتحت لها مكاناً أسالتها منه‏.‏ وإن نقصَت عن ذلك أحالت المادة مِدَّةً غير مستحكمة النُّضج، وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعُها منه، فيُخاف على العضو الفساد بطُول لبثها فيه، فيحتاجُ حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبَطِّ، أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو‏.‏

وفى البَطِّ فائدتان؛ إحداهما‏:‏ إخراج المادة الرديئة المفسدة‏.‏

والثانية‏:‏ منع اجتماع مادة أُخرى إليها تقوِّيها‏.‏

وأما قوله في الحديث الثانى‏:‏ ‏(‏إنه أمر طبيباً أن يَبُطَّ بطن رجل أجْوَى البطن‏)‏، فالجَوى يُقال على معانٍ منها‏:‏ الماءُ المُنْتِنُ الذي يكون في البطن يحدُث عنه الاستسقاءُ‏.‏

وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة، فمنعته طائفةٌ منهم لخطرِه، وبُعدِ السلامة معه، وجوَّزته طائفةٌ أُخرى، وقالت‏:‏ لا علاج له سواه، وهذا عندهم إنما هو في الاستسقاء الزِّقىِّ‏.‏ فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع‏:‏ طَبْلىّ‏:‏ وهو الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضُربت عليه سُمع له صوتٌ كصوت الطَّبل، ولحمىّ‏:‏ وهو الذي يربُو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشُو مع الدم في الأعضاء، وهو أصعبُ من الأول، وزِقِّىّ‏:‏ وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادةٌ رديئة يُسمع لها عند الحركة خَضخضةٌ كخضخضةِ الماء في الزِّق، وهو أردأ أنواعه عند الأكثرين من الأطباء‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ أردأ أنواعه ‏(‏اللَّحْمىُّ‏)‏ لعموم الآفة به‏.‏

ومن جملة علاج الزِّقى إخراج ذلك بالبَزْل، ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق لإخراج الدم الفاسد، لكنه خطِرٌ كما تقدَّم، وإن ثبت هذا الحديث، فهو دليلٌ على جواز بزله‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطفِ ما اعتاده من الأغذية

في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديثِ عُرْوةَ، عن عائشةَ‏:‏ أنها كانتْ إذا ماتَ الميتُ من أهلِها، واجتمع لذلك النساءُ، ثم تفرَّقْنَ إلى أهلهن، أمرتْ ببُرْمَةٍ من تَلْبينةٍ فطُبِخَتْ، وصنعت ثريداً، ثم صبَّت التلبينةُ عليه، ثم قالت‏:‏ كُلوا منها، فإنى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏التَّلْبِينَةُ مَجمَّةٌ لفؤادِ المريضِ تَذهبُ ببعضِ الحُزْن‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ من حديث عائشة أيضاً، قالت‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكُمْ بالبَغيضِ النَّافع التَّلْبِينِ‏)‏، قالت‏:‏ وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكَى أحدٌ من أهله لم تَزلْ البُرْمةُ على النارِ حتى ينتهىَ أحدُ طرَفَيْهِ‏.‏ يَعنى يَبْرَأ أو يموت‏.‏

وعنها‏:‏ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له‏:‏ إنَّ فلانَا وَجِعٌ لا يطْعَمُ الطَّعَامَ، قال‏:‏ ‏(‏عَلَيْكُم بالتَّلْبِينَةِ فحُسُّوه إيَّاها‏)‏، ويقول‏:‏ ‏(‏والذي نفْسى بيدِه إنَّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أحدِكُم كما تَغسِلُ إحداكُنَّ وجهَها مِنَ الوَسَخ‏)‏‏.‏

التَّلْبين‏:‏ هو الحِسَاءُ الرقيقُ الذي هو في قِوَام اللَّبن، ومنه اشتُق اسمُه، قال الهَرَوىُّ‏:‏ سميت تَلبينةً لشبهها باللَّبن لبياضِها ورقتِها، وهذا الغِذَاءُ هو النافع للعليل، وهو الرقيقُ النضيج لا الغليظ النِّىءُ، وإذا شئتَ أن تعرِفَ فضل التَّلْبينَةِ، فاعرفْ فضل ماء الشعير، بل هي ماءُ الشعير لهم، فإنها حِساء متَّخذ من دقيق الشعير بنُخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يُطبخ صِحاحاً، والتَّلبينَة تُطبخ منه مطحوناً، وهى أنفع منه لخروج خاصيَّةِ الشعير بالطحن، وقد تقدَّم أنَّ للعاداتِ تأثيراً في الانتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت عادةُ القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحوناً لا صِحاحاً، وهو أكثرُ تغذيةً، وأقوى فعلاً، وأعظمُ جلاءً، وإنما اتخذه أطباءُ المدن منه صِحَاحاً ليكونَ أرقَّ وألطفَ، فلا يَثقُل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورَخاوتِها، وثِقلِ ماءِ الشعير المطحون عليها‏.‏ والمقصودُ‏:‏ أنَّ ماء الشعير مطبوخاً صِحاحاً يَنفُذُ سريعاً، ويَجلُو جَلاءً ظاهراً، ويُغذى غِذاءً لطيفاً‏.‏ وإذا شُرِب حاراً كان جلاؤه أقوى، ونفوذُه أسرَع، وإنْماؤه للحرارة الغريزية أكثرَ، وتلميسُه لسطوح المَعِدَة أوفق‏.‏

وقولُه صلى الله عليه وسلم فيها‏:‏ ‏(‏مجمةٌ لفؤاد المريض‏)‏، يُروى بوجهين؛ بفتح الميم والجيم، وبضم الميم، وكسر الجيم‏.‏ والأول‏:‏ أشهر‏.‏ ومعناه‏:‏ أنها مُريحةٌ له، أى‏:‏

تُريحهُ وتسكِّنُه من ‏(‏الإِجْمـام‏)‏ وهو الراحة‏.‏ وقولُه‏:‏ ‏(‏تُذهب ببعض الحُزْن‏)‏، هذا والله أعلم لأن الغم والحزن يُبَرِّدان المزاجَ، ويُضعفان الحرارةَ الغريزية لميلِ الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها، وهذا الحساءُ يُقوِّى الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها، فتزيلُ أكثرَ ما عرض له من الغم والحزن‏.‏

وقد يُقال وهو أقربُ ‏:‏ إنها تَذهبُ ببعض الحُزن بخاصيَّةٍ فيها من جنس خواصِّ الأغذية المفرِحَة، فإنَّ من الأغذية ما يُفرِح بالخاصية‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد يُقال‏:‏ إنَّ قُوى الحزين تَضعُفُ باستيلاء اليُبْس على أعضائه، وعلى مَعِدته خاصةً لتقليل الغذاء، وهذا الحِسَاء يرطبها، ويقويها، ويغذِّيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريضَ كثيراً ما يجتمع في مَعِدَته خَلْطٌ مرارى، أو بَلْغَمِى، أو صَديدى، وهذا الحِسَاءُ يَجلُو ذلك عن المَعِدَة ويَسْرُوه، ويَحْدُره، ويُميعُه، ويُعدِّل كيفيتَه، ويَكسِرُ سَوْرَته، فيُريحها ولا سِيَّما لِمَن عادتُه الاغتذاءُ بخبز الشعير، وهى عادة أهل المدينة إذ ذاك، وكان هو غالبَ قُوتِهم، وكانت الحِنطةُ عزيزة عندهم‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم

روى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث أبى سعيد الخُدرىّ، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دَخَلْتُم على المَرِيضِ، فَنَفِّسوا لَهُ في الأجَلِ، فإنَّ ذَلِكَ لا يَرُدُّ شيئاً، وَهُوَ يُطَيِّبُ نَفْسَ المريضِ‏)‏‏.‏

وفى هذا الحديث نوعٌ شريفٌ جداً من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يُطيِّبُ نفسَ العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعشُ به القُوَّة، وينبعِثُ به الحارُّ الغريزى، فيتساعدُ على دفع العِلَّة أو تخفيفها الذي هو غايةُ تأثير الطبيب‏.‏

وتفريح نفس المريض، وتطييبُ قلبه، وإدخالُ ما يسُرُّه عليه، له تأثيرٌ عجيب في شفاء عِلَّته وخِفَّتها، فإنَّ الأرواح والقُوَى تقوى بذلك، فتُسَاعِدُ الطبيعة على دفع المؤذى، وقد شاهد الناس سكثيراً من المرضى تنتعِشُ قواه بعيادة مَن يُحبونه، ويُعظِّمونه، ورؤيتهم لهم، ولُطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم، وهذا أحدُ فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم، فإنَّ فيها أربعة أنواع من الفوائد‏:‏ نوعٌ يرجع إلى المريض، ونوعٌ يعود على العائد، ونوعٌ يعود على أهل المريض، ونوعٌ يعود على العامة‏.‏

وقد تقدَّم في هَدْيه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه، ويضع يده على جَبْهته، وربما وضعها بين ثديَيْه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه في عِلَّته، وربما توضَّأ وصَبَّ على المريضِ من وَضوئه، وربما كان يقولُ للمريض‏:‏ ‏(‏لا بَأْس، طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله‏)‏، وهذا من كمال اللُّطف، وحُسن العلاج والتدبير‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية، دون ما لم تَعْتَدْه

هذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العِلاج، وأنفعُ شىء فيه، وإذا أخطأه الطبيبُ، أضرَّ المريضَ من حيثُ يظن أنه ينفعه، ولا يَعْدِلُ عنه إلى ما يجدهُ من الأدوية في كُتب الطب إلا طبيب جاهل، فإن ملاءمةَ الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها، وهؤلاء أهل البوادى والأكارُون وغيرُهم لا ينجَعُ فيهم شراب اللينوفر والوردِ الطَرِّى ولا المغلى، ولا يُؤثر في طباعهم شيئاً، بل عامةُ أدوية أهلِ الحَضَر وأهل الرَّفاهيةَ لا تجدى عليهم، والتجربة شاهدة بذلك،ومَن تأمل ما ذكرناه من العلاج النبوىِّ، رآه كُلَّه موافقاً لعادةِ العليل وأرضه، وما نشأ عليه‏.‏ فهذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العلاج يجب الاعتناءُ به، وقد صرَّح به أفاضلُ أهل الطب حتى قال طبيبُ العرب بل أطَبُّهم الحارثُ ابن كَلَدَةَ، وكان فيهم كأبقراط في قومه‏:‏ الحِميةُ رأس الدواء، والمَعِدةُ بيتُ الداء؛ وعوِّدُوا كُلَّ بدنٍ ما اعْتَاد‏.‏ وفى لفظ عنه‏:‏ الأزْمُ دَوَاءٌ، والأزم‏:‏ الإمسـاكُ عن الأكل يَعنى به الجوع، وهو من أكبر الأدوية في شــفاء الأمراض الامتلائية كلِّها بحيثُ إنه أفضلُ في عِلاجها من المستفرغات إذا لم يُخَفْ من كثرة الامتلاء، وهَيَجانِ الأخلاط، وحِدَّتها وغليانها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏المَعِدَةُ بيتُ الداء‏)‏‏.‏ المَعِدَةُ‏:‏ عضو عصبىٌ مجوَّفٌ كالقَرْعَةِ في شكلها، مُركَّبٌ من ثلاث طبقات، مؤلَّفةٍ من شظايا دقيقةٍ عصبية تُسمى اللِّيفَ، ويُحيط بها لحم، وليفُ إحدى الطبقات بالطول، والأُخرى بالعَرْض، والثالثةِ بالوَرْب، وفمُ المَعِدَة أكثر عصباً، وقعرُها أكثر لحماً، في باطنها خَمْل، وهى محصورة في وسط البطن، وأميَلُ إلى الجانب الأيمن قليلاً، خُلِقَتْ على هذه الصفة لحكمةٍ لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه، وهى بيتُ الداء، وكانت مَحَلاً للهضم الأول، وفيها يَنضَجُ الغذاء وينحدِرُ منها بعد ذلك إلى الكَبِد والأمعاء، ويتخلَّف منه فيها فضلاتٌ قد عجزت القوةُ الهاضمة عن تمام هضمها، إما لكثرةِ الغذاء، أو لرداءته، أو لسوءِ ترتيبٍ في استعماله، أو لمجموع ذلك، وهذه الأشياء بعضُها مما لا يتخلَّص الإنسان منه غالباً، فتكونُ المَعِدَة بيت الداء لذلك، وكأنه يُشير بذلك إلى الحثِّ على تقليل الغذاء، ومنْعِ النفس مِن اتِّباع الشهوات، والتحرُّزِ عن الفضلات‏.‏

وأما العادةُ‏.‏‏.‏ فلأنها كالطبيعة للإنسان؛ ولذلك يُقال‏:‏ ‏(‏العادةُ طبعٌ ثانٍ‏)‏، وهى قوةٌ عظيمة في البدن، حتى إن أمراً واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات، كان مختلِف النسبة إليها‏.‏ وإن كانت تلك الأبدانُ متفقةً في الوجوه الأُخرى مثالُ ذلك أبدانٌ ثلاثة حارةُ المزاج في سن الشباب، أحدُها‏:‏ عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء الحارة، والثانى‏:‏ عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء الباردة‏.‏ والثالث‏:‏ عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء المتوسطة، فإن الأول متى تناول عسلاً لم يضر به‏.‏ والثانى‏:‏ متى تناوله، أضرَّ به‏.‏ والثالث‏:‏ يضرُّ به قليلاً‏.‏ فالعادةُ ركنٌ عظيم في حفظ الصحة، ومعالجةِ الأمراض، ولذلك جاء العلاجُ النبوىُّ بإجراء كل بدن على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغيرِ ذلك‏.‏